ابتسامة فقط، قد تصنع حياة!
سألته بتوسل أن تقف تحت المظلة. لم تكن المرأة بحال يدفع شرطي المرور من أن يختار بين أن يقبل أو يرفض، فقط تجاهلها وانصرف يجيب إشارة لاسلكية على جهازه الخاص، اقتطعته لدقائق من الأجواء حوله.
بمرارة تركته وهي تخفي انكسارها، وبنفس درجة معاناتها واصلت تشظّيها وسط كراكيب العالم الحديدية، وتحت سطوة فوضاه الخلاقة.
هي، ككل بائع جوّال نشأ في كنف الحي الراقي، ارتبطت أيضًا بالمكان، بسيارات تتحرك بينها حين تقف في إشارة المرور.. بحياة ترى ملامحها الحادة فحسب في حارات السيارات، أما عن الشوارع الجانبية والبعيدة عن ساحة الصراع فالحياة مرتبطة بزمن معلّق في محور دائرة مغلقة.
لا أحد يعرف كيف ظهرت؟ أو من أين أتت؟ أو من تكون؟ فقط ذاك الشاب في الكشك القريب على دراية، ربما، بإجابات مقنعة لأسئلة تحيّر الجميع. بين وقت وآخر يجلس جواره شاب أربعيني، يسحب مقعدًا خارج الكشك ولا يرفع عينيه عنها، كما لو كان يراقبها، يرصد تحركاتها، ويحصي عليها أنفاسها.
أحيانا يراها من يعبر الطريق إلى بيته، وهي تجر في ذيل جلبابها طفلة صغيرة كزهرة ذابلة. وأحيانا يراها من يطلّ من شرفته القريبة وهي تجر طفلتين، تترك إحداهما بالشريط الأخضر المتاخم للرصيف، وبين يديها برطمان زجاجي تحتفظ فيه بضفدع صغير يصارع بقاءه حيًّا تحت الغطاء المحكم.. بينما الطفلة الأخرى تقفز بها بين السيارات، تحملها بذراعيها لتكشف عن وجه طفولي بائس مشوه برتوش حريق قديم، تستجدي أصحاب السيارات بنظرات حزينة:”أطفالي يتامى، ساعدوني!” بعضهم يتعاطف معها بجنيهات قليلة، وبعضهم تشير إليه بحركة بذيئة، قد يلمحها في مرآة سيارته فيبادلها بذراعه، فتبصق باتجاهه ولا تلوي على شيء!
عند الذروة، تجدها غير قادرة على الحركة بقدميها على أسفلت ملتهب بفعل حرارة الشمس، فتسند ظهرها إلى جذع شجرة ترتاح في ظلها، على مقربة منها طفلتها اللاهية ببرطمان ضفدعها، وما أن تجد على رأسها ذاك الشاب الأربعيني بما يكيله لها من صفعات على وجهها وصراخ حاد بصوته الجهوري، حتى تنهض منطلقة في مغبة الزحام من جديد.
في المرة التي فوجئ بها الشرطي، وقد صدمتها سيارة تقطع إشارة المرور، فسقطت أرضًا، وجعلت تعوي ككلب مذبوح.. انطلق مسرعًا بجسارة وقطع الطريق أمام السيارة التي سمع قاطنو الحي صراخ مكابحها وهي تقف، لا يفصل بينها والشرطي غير سنتيمترات قليلة.. ثم بحركة بهلوانية استدار حيث سائقها الذي ما إن اطّلع على هويته، حتى تنحى للخلف بهدوء، و بابتسامة أسف لوّح بيده مشيرًا له بالانصراف!
لم يحرك ساكنًا، ذاك الشاب الأربعيني الجـّهم، لم ينهض لينظر ماذا حدث لها ويأخذ بيديها، أو يسقيها شربة ماء. فقط ترك “موضوع التعاطف هذا!” لعامل نظافة عجوز توقف عن دفع عربته الصغيرة، منحنيًا بظهره المقوس، ليمسح بكُمّ قميصه الدماء التي تغطي وجهها، ثم حاول، ببطء، سحْبها إلى الرصيف، ريثما تبتعد عن نهر الطريق وتلتقط أنفاسها.
000000
في الجهة المقابلة لطريق السيارات كان أبوان منشغلين بشجارهما المعتاد، على أحقية أحدهما في حضانة الطفلة. تحتد الأم في وجهه قائلة:
– أنا أم، ولا يمكن أن تحرمني من ابنتي عشر سنوات!
تلصق طفلتهما، جبهتها بزجاج النافذة في تبرم طفولي حزين. ما لبث أبوها يكيل كلماته الحادة العنيفة لأمها مجددًا، وهو يضرب بقبضتيه عجلة القيادة:
– أنت مهملة! مهملة! ولا تستحقين أن تكوني أمًا.
تلمح الطفلة من بعيد تلك المرأة المكومة على الرصيف، في ما يبدو أنها تابعتها منذ توقفت سيارتهم.. وجعلتها تفتح عينيها على اتساعهما. وكما لو تدور في رأسها فكرة ما، ضيقت ما بين حاجبيها وزمت شفتيها في وشم دقيق على اللوح الزجاجي. ثم بعثت أصابعها بهدوء إلى مزلاج الباب الخلفي. الشجار لا زال على حاله بلا هدنة! كما لو لعنة ما حلّت بأبويها، بعد سبع سنوات تركت بصمتها في طفلة آسرة الجمال والعذوبة.
حين فتحته وهبطت إلى الشارع، أحست بصمت مطبق.. صمت رهيب، ونسمة هواء خفيفة تداعب شعرها الهائش، فلم تعد تشعر بالعالم من حولها.. وفي ثوان معدودة، حملتها ساقاها إلى المرأة، التي توقفت أمامها ولا تدري ماذا تقول، أو ماذا تفعل لها. شعرتْ بإحساس قوي يدفعها للجلوس جوارها ولو لدقائق معدودة، تذكرتْ حقيبتها الصغيرة وقد نسيتها في السيارة، لكانت أعطتها من مصروفها الخاص.. أو ربما طلبتْ، برجاء حارّ، من أمها أن تصحبها إلى مستشفي قريب، أو تتصل بصديقها الطبيب… أو… أو…
مرّرت الطفلة أصابعها على جبهة المرأة، بزخم شعوري مرهف، ونظرة حانية من عينيها الضيقتين.
ومدّت برأس جروها الصغير، تساعده في أن يقول للمرأة:”مرحبا!”
تلمستْ المرأة براءة الطفلة بأمومة بائسة.. تلك البراءة التي جعلت من جسد مهدود يطفو على آلامه.. ومن دموع حارقة تهدأ، ومن شفاه مخضبة بالأحمر تنبت فوقها ابتسامة خفيفة تلمع بالحياة.
