عالم القصه

عبد النبي فرج. /مصر

عايدة يوسف

 

عايدة يوسف
(1)
أراها كائنًا خرافيًّا رابضًا في جلالٍ ورهبة.. هي السرايا يحيطها سور عالٍ قديم به فجوات وبوابة حديدية هائلة، يسكنها الأغوات السود، والبنت الجميلة التي ترتدي خمارًا وثوبًا كحليًّا غامقًأ وسلسلة من الذهب ، تنتهي بهلال ثقيل مرسوم عليه أفعى، تسير في مهابة وعزة ، ترنو إلى كلما أتت عندي في الدكان أو مرت على وهى في طريقها إلى المقابر، يسير وراءها عيال سود “مقلبظون “يرتدون ملابس بيضاء ، على رؤؤسهم سلال بها، قرص، فواكه، عيش.. ويقال: إنها تظل تطلق أصواتًا غريبة قرب مقابر تخص أسرتها دون أن يفهم أحد شيئًا . كان الأهالي يخافون منها ويتجنبونها باعتبارها لها علاقة أخوية بالجن تسخرهم في أذى أهل البلدة، وكل مريض وعاجز عن ممارسة الجنس يتهمها بأنها السبب حتى إنه كان هناك اقتراح لعمل وفد من أعيان البلدة لكي يطلبوا منها التوقف عن أذى أهل البلدة في مقابل مبلغ من المال يدفعونه لها كل موسم، ووافق معظم أهالي البلدة حتى بصق الشيخ عبد النعيم وقال: أنا أحميكم منها. وقرأ آيات الكتاب وجعل الطوب يضرب بعضه ويتكسر بعضه ويبكي . ساعتها أمنت البلدة بقدراته الخارقة وأحسوا بالأمان لأول مرة منذ فترة طويلة ولذلك ساروا وراء الشيخ عبد النعيم، وأصبح هو وكيل الجان في الأرض والحامي للبلدة من الشريرة.
المهم… عين خضراء تجرحني وتخرجني من كينونتي.. وتخايلني طوال الوقت وتفسد علاقتي بالمال والزبائن، وكأنني مشدود إليها بقوة خفية .
الآن اذهب إليها في السرايا بعد أن أرسل لي الخال رسالة محددة، الخال في انتظارك التاسعة مساء ولا أعرف ما الذي يريده مني؟ هل يريد أن يأخذ مني بالأجل؟ وما الذي أفعله لو ظل يسحب إلى أن أفلس الدكان؟ وهل بمقدرتي أن أمتنع عن إعطائه بالأجل، وهل ممكن مطالبته لو تأخر على في الدفع .
كنت حائرًا ورأسي يدور بهواجس تكادُ تصل بي للجنون، أرجع وخلاص.. وإيه يعني.
” ديك أم عايدة ..”
أخرب بيت نفسي عشان بنت شرموطه بنت كلب، أنا عارفها بنت ولا مره ولا إيه؟ إيه المصيبة السوده اللي جت على دماغي، أرجع.. ؟
توقفت عن السير .
أنا عارف عندي وسواس ويمكن ما يكنش فيه حاجة أساسًا من اللي بفكر فيه، يمكن ناس كويسة، مش معقول الناس دي تبقي وحشة، شكلهم حلو وحديث عايدة ينم عن أصول رفيعة، طيب لو طلع كل ده أوهام ووسواس قهري؟، يبقى ضيعت فرصة “عايدة” واحة حياتك المجدبة، أنا ممكن لو طلب مني شكك أقول: أنا معايا شركاء، بس هتبان صغير ومتردد ومنتش شخص يعتمد عليه، وهيقولوا بتهرب .
كانت مخيلتي ترسم للخال صورة شرير لا أعرف لماذا؟ أنا مشوش، طيب يا ترى ما الذي قالته عني عايدة؟ كنت حذرًا بطبيعتي ولا أنتظر من الآخر سوى الغدر ولكن محبتي لعايدة وأمنيتي أن استحوذ على كل هذا الجمال جعلتني أغامر بالذهاب، وأنا أتوقع أن أسمع منه ما يجرحني، أن تكون عايدة قالت له إنني أغازلها ويريد أن يهينني ويعرفني مركزي، وأن عايدة سليلة الحسب والنسب والأصول الممتدة في التاريخ لا يمكن أن تتزوج ببقال مثلي،
نفضت بقوة الهواجس ورددت: أنا كاتب.
ولكن المشكلة أنني ليس لي سند من هذه الهواية العجيبة التي جلبت لي الشرور أكثر من أي شيء آخر، وعطلت مهنتي التي أتكسب منها ولذلك كل من فتح دكانا استطاع أن يبني بيتًا ويشترى أراضي زراعية، ويستمتع بما لذ وطاب وأنا الوحيد الذي أقف محلك سر، نفس الملابس الرثة، نفس الأكل نفس الشرب، لا جديد. بقال بلا إنجازات تذكر..
ما الذي يمكن أن أقوله أو أسرده عني يعتبر مزايا… أن أقول مثلا: إنني شاب مكافح وإنني لدى طموح… ضحكت وأنا ممرور, يعني لو أنت ارتديت جسد ووسامة محمود ياسين أو حسين فهمي.. المشهد يكون بالفعل مؤثرًا وستخرج ببعض الألم والنبل الإنساني من موقف تراجيدي أما بهذا الشكل فسينقلب المشهد لكوميديا الفارس المبتذلة التي تضحك طوب الأرض .
الليل حجَّم عيني، تحركت بقوة القدر وبقوة الخيال المريض الذي أغوص فيه بقوة جرار . تركت البلدة ورائي والخلاء خلق لي كائنات هلامية.. هل كنت أغنى؟ وتوقفت وأنا أرى السرايا تتفكك وأنا أهم بدخول الممر الذي يؤدى إلى الباب وخرجت منه جنيات مسحورات.. يسرن زحفًا حتى أحطن بي، كائنات بشعة وهلامية والنور الذي اندفع من عيونهن أضاء لي المكان.. حلقي.. جف عين واحدة متتالية تميزهم، وشعر أسود كث يغطي جسمهم، وفم غوريلا وأسنان من القصدير… الصراخ لم يعد يجدي. أنت ميت، صوت يقيني وقاس ينير لك المستقبل.. أرى أمي وأنا أجزاء متناثرة تضع يديها على خدها ودموعها تسيل ورجف لجسدها لا ينتهي.. هل من آخر هل أنا أخوض في مدارات كافكا الكابوسية، أم أنني في وأقع على اجتيازه بقوة . وعندما تقدمت واندفعت بقوة الغريزة كسهم مخترقًا الحصار البشع الذي تمزق وكأنه ستار عنكبوتي ضعيف، غشاء رقيق لم يكن في احتياج إلى كل هذه القوة التي استخدمتها حتى كدت أسقط على وجهي ووترتني، وصلت إلى الحديقة، .. دفعته الباب الضخم المصنوع من الحديد الثقيل بعنف فأصدر شرخًا أربكني وجعلني أوقف زحفه… وأمر بجانب جسمي وأسير في الحديقة مصوبًا عيني في اتجاه واحد متحاشيا النظر إلى أولاد آوى… الفئران… الحيات الراقدة، في جوار جذور أشجار الكافور… الجوافة… الكازورين التي تحيط بي، تطل وكأنها تترصدني وتتحين الفرصة للانقضاض على. جريت وصعدت درج السلم محاولاً أن أبدو كرياضي وأخذت أدق الجرس في عنف إلى أن فتحت لي الباب امرأة عجوز ضامرة تحمل بيدها فانوسًا وفي يدها الأخرى سلسلة مفاتيح عتيقة مرسوم عليها جعارين وصلبان وزهرة اللوتس وهلال..
أخذت تدعوني بالدخول وأنا مرعوب من فمها الخالي من الأسنان ولسانها الأحمر ووجهها الذي ينز منه سائل يشبه الشمع يقطر على جلبابها الذي تراكم حتى شكل قبابًا
أخذت أنظر إلى الرسومات المحفورة على الباب العتيق؛ رسومات غريبة تتداخل فيها هويات كثيرة جدَّا حتى عجزت عن تحديد هويتها، .. كنت خائفا من ألدخول وكأنني ارتديت قميصًا من الجبس الذي خنق روحي حتى امتدت يدها نحوي وشدتني من ذراعي، وسارت بي في البهو الواسع وبدت الكراسي المذهبة المصفوفة مغبرة وممزقة وقد تناثر قش الأرز على البلاط، والسجاد متراكم والشمعدان والنجف ينير إنارة باهتة بفعل كمية الأتربة التي تلتصق باللمبات.. ثم صعدت بي إلى أن انتهت إلى الطابق الثاني، ودقت على الجرس ثم تركتني ونزلت إلى الدور الأرضي دون أن تقول كلمة، فتح لي الباب فدخلت وجدت الخال في مواجهتي يرحب وكأنه يعرفني من مدة، خجلت ولم أجد شيئًا أقوله سوى أن أبتسم ابتسامة باهتة:
أهلاً.. أهلاً.. إزيك يا أستاذ.. يا مرحبا.. كان ضوء الصالون مبهرًا والشقة تبدو مرتبة وأنيقة، بساط من السجاد الفاخر.
جلست على الكرسي وأخذت أنظر إلى الصور التي ملأت الصالة وباقي أجزاء الشقة الظاهر لي.. فرسان على خيول مطهمة، باشاوات، في لوحات قديمة توحي بتوغلها في الزمان جلست على الكرسي نساء يرتدين قبعات عليها ريش، وأثواب فرنسية الصنع، أغوات، عبيد، جمال تسير في صحراء ممتدة بلا نهاية، خناجر، أفاع محنطة ومصلوبة، كرابيج، لوحة بالخط الكوفي ” قل هو الله أحد… صور الجبال ممتدة يغلب عليها النور، أيقونة للعذراء.. مسلة. وكأن هذه الحيوات الكثيرة التي تحيط بك لا تحتاج إلا إلى أن تخرج من توابيتها لتهجم عليك. أنهكت وكأنني داخل صراع مميت مع أنني طوال عمري أهرب من الصراع، أريد أن أحتفظ بكل شيء داخلي كما هو.. دون أن يمس فأنا لو مست ذاتي الوارمة أصلاً ستكون نهايتي.. ولذلك فإن المغامرة بالنسبة لي نوع من الجنون. ولذلك اعتقلت ذاتي بين الدكان وتعاسته التي لا تحتاج بالتأكيد إلى شرح لأن الشرح في تلك الحالة مش مفيد يكفي الغم الذي أنا فيه الآن…
جلست أنتظر…
يا مرحبا داحنا في غاية السعادة بوجودك معانا الليلة ثم أخذ يطبطب عليَّ حتى تصورت أنه يسخر مني أصبت بمرارة ويأس قاتم وقد نبت عرق خفيف على جبهتي
– أهلاً بيك أنا خايف أكون أزعجتك
– لا يارجل… إزاي دا حتى ست عايدة بتشكر فيك
– عايدة ؟!
– آه.. بنت أختي…
– عايدة ذات العيون الخضراء والصوت الهامس الناعم، والتكوين الدقيق بنت أخت الخرتيت مجدور الوجه؟!
تركني ودخل إلى عمق السرايا، ثم عاد وفي يديه صينية من الفضة وعليها كوب عصير برتقال أخذ ت أنظر إلى رأسه الأصلع الممتد كنمس البطيخ وعيونه الجاحظة حتى انتابتني موجة من الضحك كتمتها وأنا اهتز.
برق خطف قلبي، وهي مندفعة تجري في مواجهتي حتى تحققت مني فتراجعت مرة أخرى بنفس القوة التي دخلت بها….
– تعالي تعالي يا عايدة.. دا مش غريب. لم تأت عايدة وهو ينادي حتى أحسست بالحرج..
– خلاص يا حاج سيبها براحتها.
– أصل هي خجولة خالص.
أظل أنصت لكلامه وعيني في عينه بعد أن أدرت وجهي ناحيته، ورغم ذلك أسرح في مكان آخر حتى يتوه مني خيط الكلام وعندما أنتبه على صوت أتصور أن الذي أمامي ليس الخال بل شخص آخر أو أن داخله شخص يتكلم بدلاً منه وعندما التفت يصدمني وجهه الأصفر المميت الذي ينظر لي في حياد كامل، حرت وبدوت ما بين الخوف والقلق والرغبة . هل يريدني أن أخرج؟. سكنت وابتعدت بنظراتي تجاه الحائط. ماذا يدور في ذهنه؟ أتيت من أجلها؟ وفي حماس مفاجئ أتكلم عن الجنة والنار والحساب يوم القيامة والعفة والأخوة المفتقدة. وأشاور بيدي حتى أن عيني كانت تغزوها الدموع مع أنني أتألم بعايدة.. ثم سكت فجأة أيضا..
تركني وفتح سحارة بجوار الحائط وأخرج منها نايًا قديمًا وجلس جواري وأخذ ينفخ فيه.. وصوت الناي يخرج خافتًا ومرتجفًا لم يكن نافخًا محترفًا ورغم ذلك بلغ تأثير صوت الناي علي كما لم يبلغه أي عازف محترف، كنت أرتجف من قسوة الصوت ووجهه انقلب وكأنه جزء من الناي وكأن الناي خلق وجهًا حتى استغرق في العزف وتحول صوت الناي إلى أنين يشبه البكاء, ألم خالص أو عبودية خالصة، ارتجف لها جسدي، ينفخ وعروق رقبته تكاد تنفجر حتى أنني جرى لي ما يشبه الغيبوبة من التعب المضني حتى أنني لم أرها وهي تلبد جوار الخال وعيناه تجوس في المكان وكأنها لا ترى أحدًا
خلعت الخمار فبدا وجهها منيرًا وموردًا وبديعًا وبدت شفتاها مكتنزتين وحمراوين ثم وقفت وبدت تدور حافية وتنتقل في رشاقة فراشة حول مركزها.. ثم نزعت غطاء الرأس وتدفق شلال من الشعر الأصفر تناثر على وجهها وظهرها وهي تتمايل وتهتز على صوت الناي، والضوء يخفت والحجاب ينزلق عن ثوب شفيف ملتصق بالجسم الذي عرق فبدا النهد والأرداف، السيقان، السرة، والخال تترقرق في عينيه الدموع..
يزداد صوت الناي عويلاً وتقطيعًا، وأنا غير قادر على السيطرة على جسدي الذي يرتجف ارتجافًا عنيفًا حتى صرخ الخال صرخة رجت السرايا ومزق ملابسه وبدا كتلة من اللحم الأسود، وخطوط في ما يشبه الكرباج متجعدة وشائهة تسم جسده. يقف في وسط الغرفة وعضوه نواة صغيرة، يسكر كدرويش مجذوب وعيال سود صغار تدخل بالطبل والمزمار والرق يحطن بعايدة وسكرًا سكرًا يشبه الرقص ورقصًا يشبه السكر وقد بدا جسدها العاري يكاد يضيئ .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق