الثقافةفعاليات ثقافية

صادق الطائي

قراءة في رواية شريف حتاتة

عندما يستحيل الوطن سجنا
قراءة في رواية (ابنة القومندان) للروائي شريف حتاتة

صادق الطائي/كاتب عراقي
يواجهنا الروائي والمناضل اليساري المصري شريف حتاتة عند عتبة النص مشيرا الى عدم معرفته لجنس هذا النص، هل هو رواية؟ او مسرحية؟ ام احلام جاءته وهو في معتقل الواحات؟ ويمكننا ان نجيب على ذلك قائلين بل ومؤكدين اننا امام رواية واضحة المعالم من حيث البناء والحدث وحركة الشخصيات في هذا الفضاء الابداعي.
إن الجو العام لرواية (ابنة القومندان) يوحي بأن المؤلف قد استعان بتجربته الشخصية أثناء تعرضه للاعتقال في أكثر من معتقل إبان اشتغاله بالعمل السياسي السري، وبشكل خاص تجربة الاعتقال في معتقل الواحات الصحراوي، إلا إن هذه الاستعانة لم تحل المتلقي الى تجربة سرد تقترب من السيرة الشخصية. فمن البديهي أن يتوقع المتلقي رواية من نوع ما يمكن أن يطلق عليه (أدب السجون)، وهي ذلك النوع من الروايات التي تسرد معاناة تجربة السجن وخصوصا تجارب (سجناء الرأي)، إلا إننا في رواية ابنة القومندان أمام نوع مختلف من السرد، فالعلاقات الداخلية بين شخصيات العمل علاقات شفيفة، وربما يمكن وصف السرد الذي إشتغل عليها بأنه تصوير لمشاهد الغبش الصوفي الذي يغلف تلك العلاقات، كما إن السرد سعى في أكثر من مكان الى الرومانسية المفرطة التي تكاد تصل به الى نوع من الأسطرة، أو الحكي الشفاهي الذي يسرد سير العشاق الخالدين مثل (قيس وليلى) و (روميو وجولييت).
البطل (حمدان محمد عميرة) بطل اشكالي محض، مات ابوه وهو صبي صغير، يتذكره بوضوح أحيانا، بينما نجده متواريا كالشبح في القصص السحرية احيانا اخرى، وهذه سمة مشتركة للكثير من الابطال الاشكاليين في الميثولوجيات والقصص الشعبي، إن هذا الاب الميثولوجي قد رحل تاركا الصبي بلا مال او طين او عزوة عائلية يحتمي بها، وإن المفارقة السحرية تتضح عندما نكتشف أن تركة الاب لم تكن سوى كراسة صغيرة زرقاء اللون كتب فيها أبياتا من الشعرومسبحة، لكن الطفل حمدان، وكأي بطل ميثولوجي يمشي شامخا قويا لا ينحني أمام صعاب ينخ أمامها الكبار، فنراه مثلا في احالة واضحة الرمزية في عراكه مع ابن الجزار الذي اقترب من سن الرجولة والذي يكبره عمرا وجسدا ، نرى حمدان يمرغ عنجهية ابن الجزارالطفولية الفارغة بالارض.
إن مثل هذه الشخصيات الاشكالية عندما تحب لابد أن تكون متفردة أيضا، فهو لم يحب بنت الجيران مثل باقي أقرانه ويقبل بما قسم له نصيبه، إنما نراه قد أحب البنت الاهم في قريته، (ابنة مقاول الأنفار)، واستكمالا لبناء هكذا شخصية نجد الراوي قد جعل مهنته (شاعرا) ولايخفى ما لذلك من أبعاد .
لقد اتكأ الراوي على كينونة البطل الشعرية كثيرا في بناء وحركة وايقاع السرد، لأن الشاعر و/او المثقف، هو ضمير الامة ومحرك التغيير فيها، وبالتالي فهو الاخطر بالنسبة للانظمة المستبدة النائمة على عرش قوامه ترسيخ التخلف وإدامته في المجتمع واغتيال الخيال الابداعي لدى أفراده، لذا فأننا نجد القومندان يصرح بأن (حمدان) سجينا خطرا لايمكن الافراج عنه باي حال، وذلك (لانه يمتلك خيالا)، وفي محاولة بائسة من ادارة المعتقل لمحاصرة الخلق والخيال، يحرم حمدان على مدى سنوات الاعتقال من الورق والقلم لانها ادوات مساعدة على الخلق والابداع – المرعب – الذي يقض مضجع الانظمة الشمولية.
وبذلك نحن أمام عمل يفارق ما اعتدناه من رواية السجن بسماتها المعروفة التي ربما كان أبرزها إظهار صور القسوة المفرطة التي يتعرض لها السجناء السياسيين على يد جلاديهم عبر سرد تفصيلي لصنوف التعذيب النفسي والجسدي المجاني لانتزاع اعتراف منهم، أو لإجبارهم على تغيير معتقداتهم، ويمكننا القول إن “ابنة القومندان” لم تطرح نفسها كرواية سجن تقليدية، إنما يمكننا أن نحس إن السجن فيها هو اسقاط رمزي على كل الحياة المعاشة، أي إن الوطن قد استحال في أجواء الرواية الى سجن يحكمه قومندانا غريب الاطوار، قاسي القلب، يفيض كرها لكل شيء و لكل مظهر من مظاهر الحياة الطبيعية.
ولابد من أن نشير الى إن مكان الحدث في “ابنة القومندان” قد تم تمييعيه، فبرغم الجو المصري للاحداث، إلا إن الفنتازيا تحيط بالحكاية بطريقة تجعل احتمالية حدوثها ممكنة في أي معتقل صحراوي في بلداننا المبتلاة بالرزوح تحت وطأة الانظمة الشمولية، ورغم التأكيدات الجغرافية التي تصف المعتقل وتحدد مكانه قرب الحدود السودانية، إلا إن مسميات وتوصيفات مثل “معهد التدريب والاصلاح”، “القومندان”، “المشرف العام”، “رئيس اتحاد النزلاء” كلها إحالات أكسبت النص غلالة تقرّبه من أجواء أدب أمريكا اللاتينية.
ومن مقاربات أمريكا اللاتينية أيضا، تدفق الواقعية السحرية في علاقة البطل(حمدان محمد عميرة ) بـ (الشاب – شاهد الملحمة)، فعلى إمتداد سنوات علاقتهما في المعتقل لا يتم بينهما أي تبادل للحديث، إنما يحركهما الراوي عبر الاحساس الجمالي، والوجداني، والصوفي، الذي يغلف مسيرهما اليومي وجلوسهما، ومراقبة قرص الشمس ساعة الشروق وانشداههما بآلوان السماء والصحراء العجائبية التحول.
ولايمكننا أن نغفل بناء شخصية “القومندان مصطفى الحناوي ” في هذه الرواية، فقد ولد في يوم حريق القاهرة يناير -1952 في دلالة رمزية عن التنين الرابض في هذه الشخصية، وإبتعد شريف حتاتة عن الرسم النمطي للشخصية المطلقة الشر، وحاول إيجاد خيوط بيضاء في السواد الحالك المغلف لكل تفاصيل هذه الشخصية، وذلك عبر علاقته بأبنته “كريمة”، تلك العلاقة محكومة بشد وجذب، فهما قطبان بينهما تجاذب، لكن التنافر يحكم علاقتهما فيبقيها مستمرة لكنها سائرة على شعرة التوتر.
ولابد من الاشارة الى ملامح البناء الميثولوجي وفق رؤيا المأساة اليونانية التي تغلف العمل، فالشاعر ولد حاملا صخرة قدره، ورغم ذلك فهو لا يساوم ولا ينحني ولا يرضخ للترغيب عندما يعرض عليه النظام المستبد منصبا كبيرا، بل نراه يقابل ذلك بشكل فنتازي وذلك بشد لحية الضابط الكبير الذي يكلمه، مما يسبب نقله الى المعتقل الصحراوي .
أما القومندان وفق هذه الرؤيا فهو متحدر من عائلة تعشق البوليس والسلطة وقدره انه ولد وفي داخله يكمن تنين يحرق ويدمر ويفكك ويحطم كل شيء ويحيله الى تل رماد يجلس عليه منتشيا بأنتصاره، فهو صورة رمزية لاله الشر في هذه الميثولوجيا، أما الطرف الثاني في هذه المعادلة فهي (كريمة – ابنة مقاول الانفار) و (كريمة – ابنة القومندان ) المتطابقتان حد التحول الى معشوقة واحدة، ولدت وقدرها أن تتحدى في سبيل عشقها الذي غالبا ما كان غير عقلاني لتنتهي على مذبح العشق شهيدة عشقها، أما ( الشاب ) صديق بطل الملحمة، فهوالضلع الرابع المكمل لمربع الملحمة، الذي حمل معاناة شهادة الكارثة وعاش وهاجسه الوحيد أن يوصل هذه الملحمة الى الناس قبل أن يغيبه الموت الزاحف مع سنوات العمر الراكضة، وبرغم القناع الدرامي الذي إستعمله السارد في نهاية الرواية، إلا ان ذلك لم ينقص أو يحد من سحرية وعجائبية ( ابنة القومندان ).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق