عالم القصه
هادى المياح العراق
كأن القرشَ لا يزالُ هنا
عاد مهموماً إلى منزله. دخل الحمّامَ مهرولًا، متضايقًا من نفسه وملابسه. وبأسرعِ ما يُمكِنُ، صار تحت الدُّش مباشرة.
في الخارج كان الجوُ خانقًا، وفي السوق، هناك الكثير من المضايقات التي تمتزجُ بالهواء والتنفس. كان عليه ان يجتازَ كل ما يصادفه ويعبرُ الزحمةَ والبسطات، ويتحمل رائحة الثمارِ التالفة، والعرق الآدمي المنبعث مع الهواء.
كانت عربات الدفع الصغيرة، تمرُّ بمحاذاته باستمرار ودونما انقطاع. في كل دقيقة تمُّر عربةٌ، ويسمع صوتُ صبي خلفه:
“انتبه، وراءك عربة! ”
وفِي محاولةٍ سريعةٍ للتخلصِ من أحدهم، اصطدم ب(…)الفتاة التي أمامه، فالتفتت إليه بدهشة، ورمقته بعينين زرقاوين بلونِ البحر، ارتسمت فوق حاجبيها تقطيبةٌ حادة، ثم دنت منه ورفعت يدها و.. هل انت اعمى؟
بدا له كَأَنَّ البحرَ قد هاج. نسي ما حدث وتسمّر في مكانه، أمامها دون حِراك، لم تحضره كلمة اعتذار، فقط ردّد بعفوية وبصوت خفيض مستذكرا :
“البحرُ من أمامكم والعدو من خلفكم “.
نعم، قالها هكذا!
سمعته الفتاة، ردّت عليه بنبرة حادّة:
“في البحر، تعيش اسماك القرش! ”
ارتاب وانحرف محاولًا الابتعاد عنها. لسوء حظّه، صدمته عربةٌ دفع داست على قدمه. ندّت عنه آهةٌ، وانحنى إلى الأرض بلا وعي، بينما ظلت عيناه معلقتين بالعربة.
كانت الفتاة ما زالت واقفةً مذهولة في مكانها، تترقّب ما يجري. ربما ارادت التأكد من عفويته وحسن نواياه.
انتبه الى نفسه، ولاذ خلفَ إحدى المصاطب، متحسسًّا بقدمه التي تورمت بعض الشيء، وتصاعد الألم من مكان الإصابة.
لاحظتْ الفتاة ذلك، فاختفى تقطيب حاجبيها، وانزاح غضبها، فيما ارتاح هو وأحسّ كأن الألم قد خف!
نسيَ العربةَ التي صدمته، وظلّ منشغلاً يفكَر بالفتاة وأسماك القرش في آن واحد.
ذكّرته عينا الفتاة الزرقاوين، بزوجته الحسناء الشديدة الغيرة، والتي تهتمّ بمظهره وتتأكد من أناقته، وتودّعهُ بحماسِ عاشقة قبل ان يخرج من المنزل.
استوقفته مرةً وهو يهمُّ بالخروج:
“عليك ألاّ تخرج قبل ان اراك، الناس تُحب المظاهر.”
ثم استدارت إلى خزانة الملابس وعادت مسرعة إليه :
“اخلع قميصك! لقد اخترت لك هذا القميص!”
كان يحسد نفسه على هذا الحبِّ الذي غمره ويتساءل عن السر في كل هذا:
-الا ترين إنّك تبالغين كثيرًا باهتمامك!
ردّت عليه بحماس:
– اسمعني، انا أريدك لي فقط، وعليك ان تفهم معنى هذا!
وفهم معنى هذا بعد فترة من الزمن، عندما حالفه الحظ واكتشف السر:
سمع أحدهم يهمس بإذنه:
“انها وكيلة أمِن.”
فسارع من فوره وطلَّقها.
منذ تلك اللحظة بدأت معاناته، فقد كان التخلّص منها، من أشدِّ الأمور التي واجهته في حياته. ظلّت المرأة تتعقّبه أينما ذهب، يراها أمامه في اَي مكان ينوي الذهاب اليه، كأنّها تعلم بكل حركته ومواعيده. فقد تكرّرت هذه الحال معه عدّة مرّات، حتى عثر مصادفة وفي يوم ما على جهاز تعقُّب صغير في واحد من أزرار قميصه!
عيون الفتاة تطارده طوال الطريق، تمامًا كما تفعل زوجته أو مسؤوله الحزبي الذي وضعه تحت المراقبة، وما زالت الرائحة النفاذة تلتصق بأنفه، وتيّار الماء الدافئ النازل من الدُّش يغمر جسده.
بسط أصابعَ كفّيه تحت الماء فعمل شلّالاً انزلقَ الماء بسلاسة من بين أصابعه، وشكّل أسفل الكفّين سطحًا أملسَ، ظهرت فيه عدّة مكوّنات تشبه عناصرَ لوحة فنية سحرته وهالهُ ما رأى فيها، فألقى نظرةً من عينين مبهورتين، وترك اللوحة تتّسع وتتمدد لتضمّ معظم معالم مدينتهِ.
ميّز بسهولة منارات الجوامع، والقباب والحسينيات. لاحظ أيضاً، التصادم الكبير بين الداخلين والخارجين. رأى منزله من بين عدة منازل ترقد مستسلمة بجوار الشارع الرئيسي، المزدحم بالمتسولين.
ثم تجلتْ له وجوه العديد من الأشخاص الذين يعرفهم، كان من بينهم وجه المسؤول الحزبي والمختار، وهناك وجهٌ لفتاة ذات عينين زرقاوين لم يتبيّن ملامحها تمامًا، هل هي زوجته السابقة ام الأخرى التي صدمها صدفة في السوق.
ثم أخذ وجه الفتاة يكبر حتى تحوّل الى فم عريض،انفرج فكاًّه عن أسنان، تشبه أسنان القرش.