رواية

فكرى عمر

فصل من رواية (وصايا الريح)

ذات مرة وأنا ألعب مع العيال فى وراء الجامع الكبير لعبة الاستغماية جريت إلى بعيد لأتخفى. إلى حدود تل القش، وحطب القطن، وعيدان الذرة اليابسة. وجدت بعضًا من الأوكار فيها. جسست إحداها بعصا طويلة حتى تأكدت أنه خالٍ من الكلاب، أو الثعالب، فاختبأت من “ضيف الله”، و”زكية”. رحت أضحك فى سرى؛ لأننى باكتشاف هذا الخُن السرى صرت أقواهم، وأشجعهم فى الحارة، فهذا التل العالى يحومون على حوافه ولا يجرؤون على التوغل فيه كما توغلت الآن. لا يفعل ذلك سوى الكبار؛ لأغراضهم الخاصة.

حتى لو كان أحدهما قد رآنى أختبئ هنا فهم رغم عملهم فى الحقول مع آبائهم، وحكيهم الحكايات الكثيرة حول “أبو رِجل مسلوخة”، ونساء يخطفن الأطفال، ونداهة الترعة لم يكن أحدهم ليجرؤ على المرور من هنا إذا ما تثاءبت الشمس، وانتفخ وجهها بالدم المحتقن، وبدأت تطرح رأسها للوراء على وسادة الله، فتختفى حسب ما كنا نظن. رأيت من مكمنى هذا بعض شواهد القبور، فجفت الضحكة فى قلبى. حل محلها شعور مقبض بالخواء، والمسكنة. وغلبنى النوم..

رأيتنى فى حديقة كثيفة الخضرة طيبة الرائحة. إى والله! لأول مرة فى حياتى أشم رائحة طيبة فى الحلم، وآخر مرة أيضا. رغم أننى حلمت بعطور، وروائح بعد ذلك. حتى أننى ذات مرة حلمت أننى أعمل فى محل عطور كبير، لكننى لم أشم وقتها رائحة. أية رائحة.. تخللت رائحة الحلم أعضائى كلها حتى جعلتنى خفيفًا كعصفور الجنة الذى أطارده أحيانًا فى الشارع ممنيًا نفسى أن أقبض عليه؛ لكن رغبتى لم تتحقق أبدًا إلا مرة واحدة. حينها حصلت عليه.. ميتًا. وهذا الموضوع له هامش آخر فى وقت آخر سأحكيه حتمًا.

المهم أننى استحلت عصفورًا بنى الأجنحة. خفيفًا. أطير بين دغل كثيف الخضرة، رأيت ماءً يتخلل الطرقات المعشوشبة كأن أحدًا لم يخطو عليها من قبل. على البُعد أصوات تصدح بغناء شجى عذب. لم أر أى بناء حولى رغم كثرة الألوان، وثراء الطبيعة. وفجأة فى منعطف إحدى الطرق وجدته أمامى. خيال مآتة يحرس حقلًا من أشجار التوت. كان التوت منخفضًا تبزغ حباته السمراء، والحمراء متعة للناظرين. كنت أوشك أن أدخل متجاوزًا خيال المآتة الذى لا أهابه؛ لأننى لست عصفورًا بل إنسان فى صورة عصفور. كنت مدركًا تلك الحقيقة فى الحلم لولا أن وجه خيال المآتة تشكل فورًا، وأصبح وجهًا لوحش بأنياب بارزة، وصوت زئير وحشى. سمعته يصيح: “حاذر! لا تقترب وإلا مسختك خيال مآتة أنت الآخر”.

وكأن الأشياء تتوالد من الكلمات المُرعبة رأيت أمامى عديدًا من خيالات المآتة. هى فى حقيقتها عصى من الخشب بشكل صليب أعلاه رؤوس بعض أصحابى بعيون مفتوحة، وأفواه مفغورة على موتها. تلاشت الصورة بعد لحظات؛ لأننى صرخت وأنا أمزق شيئًا عنى. لعله ريش العصفور الهش.

كان الحلم فيما أظن قصيرًا جدًا. لا يتجاوز الدقيقة، لكنها دقيقة ظلت تخيفنى العمر كله.

حين فتحت عينى ازددت رعبًا، فلم أعرف لثوانٍ بعد النوم ما أتى بى إلى هذا الوكر الغريب. لما مددت يدى؛ لأتساند على جوانبه لم يسعفنى؛ فقد تقطفت فى يدى عيدان القش. تذكرت شيئًا فشيئًا لعبة الاستغماية. دفعت نفسى هاربًا إلى خارج الوكر العميق.

كان الفضاء ظُلمة دامسة. فى السماء نتف من ضوء نجوم بعيدة لا تكسر حدة الظلام، بل تزيدها تأكيدًا، ورعبًا. درت حول تل القش وأنا أتقافز كالأرنب الذى يهرب من سكين الذبح. وصلت إلى الساحة الكبيرة التى تظهر فى نهاياتها الحجرات الطينية التى يسكنها الناس. أما المسجد فكان هائلًا فى حجمه، لكنه بعث فى نفسى الرعب، فى تلك اللحظات، أكثر مما بعث الطمأنينة لجهامة منظره من الخلف مع إظلام شبه تام. وجدتنى أخطو وإحساسان يتناوبان على صدرى. فى كل خطوة أخطوها أقفز نحو الأمان. فى كل موضع فى الجرن شبح نائم كالكلب. لو دست على ذيله غير المرئى سيثب إلى وجهى؛ لينهشنى قبل أن أصرخ صراخ المستغيث؛ لذلك كنت أمشى سريعًا فى شكل التفافات، ودوائر.

فجأة شع نور أمامى. وجدتنى أقف رغمًا عنى؛ لأن صدرى لم يحتمل كل تلك الأحاسيس، والأفكار المتباينة التى قفزت للتو، واختلط بعضها ببعض فور أن رأيت ذلك الرجل الذى يرتدى جلبابًا أبيض، ويعتمر طاقية بيضاء أيضًا وحولها شال ملفوف بطريقة يبدو منها المهابة، والوقار. وجهه كان أبيضَ مضيئًا. فى نظرتى الثانية رأيته بوضوح. يشع النور من عينين ملأهما الحنان. نظراته تجذبنى وتملأ صدرى بالطمأنينة وإن لم أمح من قلبى كل هواجسى بعد؛ فقد حكى لى أكثر من صاحب على المصطبة من قبل ليلًا، أو حول جسور الغيطان كيف تبدو عفاريت المساء الخارجة من مقابر قريتنا فى نزهات قصيرة للتسلية، أو للرغبة فى الانتقام من أحد الناس، وكيف يخدعون بأشكالهم الجميلة، وثيابهم البيضاء النظيفة، وأجسامهم الممشوقة القوية كل من يقابلهم، ثم يستطيلون شيئًا فشيئًا حتى يطالون نجوم السماء، أو يتحولون بين اللحظة، وأختها إلى أرنبٍ أبيضٍ، أو عنزةٍ، أو حمارٍ هائل الجرم.

ظلت أفكار السوء تتراجع من رأسى وهو يقترب، حتى انمحت تمامًا حين سألنى الرجل.

– ما اسمك يا فتى؟

أخذت نَفَسى بهدوء.

– عيسى.

– ما أجمل اسمك!

ظللت أرنو إليه مترقبًا حتى يفيض بالكلام، فقد كان صوته خلابًا.

– ما جاء بك إلى هنا يا عيسى فى هذا الوقت من المساء؟

– كنت ألعب، وغلبنى النوم.

قال والفرحة تطفر من عينيه الواسعتين العميقتين:

– ما أجمل اللعب! ما أروع الأحلام! لكن من أنقذك من النوم فى مكان كهذا؟

رددت بهدوء، وقد اكتست ملامحى، وصوتى ثقة كبيرة، قائلًا فى نفسى: لعله يطمئننى، ويفسر لى حلمى، فلا أخاف!

– الحلم هو ما أنقذنى؛ فقد كان أوله حديقة ولعب، وآخره مذبحة.

– عافاك الله من المذابح، والجحيم، وليكن حدائق، وجنات على الدوام.

مد يده إلى جيبه، ثم فتح كفي بيده الأخرى ووضع بهما بعض الكرات الصغيرة. قال:

– خذ! هذه من فاكهة الجنة.

إنها تشبه فى تكوينها حبات الزيتون الكبيرة، أو البلح الصيص. بيضاوية مليئة، وشبه صلبة. وضعتها فى فمى تباعًا، فما تذوقت إلى اللحظة أجمل من طعمها. مضينا نجتاز الحفر الصغيرة وهو يضم يدى الصغيرة فى يده الرطبة الممتلئة حتى وصلنا إلى أول البيوت. حينها قال منبهًا:

– فلتسرع إلى أمك؛ كى تأنس بك!

جريت فى الشارع حتى وجدت لمة كبيرة بجوار عشتنا الطينية التى أعيش فيه مع أمى. كان صواتهم مرتاعًا، وكلماتهم مختلطة. لما حشرت نفسى بينهم قلت: ها أنذا! وجدتهم جميعا يلتفون حولى وقد تكسرت ملامح الحزن، والخوف من وجوههم. نبتت فى وجوههم المذهولة فرحة عارمة. احتضنتنى النسوة. زغردن، وقبلننى، ففغمتنى رائحة عرقهن الكريهة، واندك وجهى بين صدورهن المترهلة. دفعت نفسى إلى الوراء متخلصًا منهن. فى نفس اللحظة كان أكثر من صوت ينادينى فى الاتجاه الآخر:

– تعالى يا أم عيسى.

– وصل ابنك بسلام.

وأمى تجرى نحوى وهى تتطوح ذاهلة عن كل شىء سواى. تخيلت أن هذه اللحظة لم تكن فى حياتنا تلك، لكن فى حياة أخرى؛ لتكمل مسيرة هذه الليلة الغريبة التى سأبحث عن مفاتيحها فى دروب أيامى العجيبة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

إغلاق