عالم القصه

عصام حسين عبد الرحمن

تموهات حالم بالسماء

 

تموهات حالم بالسماء
قصة قصيرة
عصام حسين عبد الرحمن

سكنت تبغ شراييني الملفوف برقائق قلقي، الظلام يجتاح الأرض، الثعابين لا تزال تتربص، شقوق كثيرة في حلقي, الشقوق نفسها تقسم ظهر الجدار, تصيبني بالغثيان، يبتلعني هذا الظلام, يقذف بي في شقوق الجدار، دبابيس القلق تدق رأسي وتنقرها، عشر ساعات من الأرق وروحي تناديها، أتأوه في سرير الغياب، أحرق كل لفائف أحلامي، أفرُّ من الشوق بمنوم، يحتضنني الجدار ويبكي!

لم أعد أنتظر شيئاً، كنتُ خائفاً جداً من الجدارــ أي جدارــ خلفه ذُبِحت غزلان في الظلام، لم تستطع عيناي التحقق من نافورة الدم المندفعة من رقبتها، الجدار كان مرتفعاً لدرجة اليأس المطلق، أقصى ما قدرتُ عليه؛ أن وشيتُ للإله وبكيت.
الغريب أنني حاولت العودة في الصباح، لكني لم أقتف أي أثر لعملية الذبح غير نظرات الهلع في عيون باقي الغزلان، تفاءلتُ ليلة أن تجمعت العصافير وقررتْ ألا تعود لأعشاشها، رغم أنها شاهدت ما أراه كل ليلة، فقد تفرقت وفقد البعض عشه!
بوسعي ألا أخاف، لن أسير في طريق به جدار، سأحمل بيدي دائماً مزماراً, وباليد الأخري كتاباً وبين ضلوعي قلباً لا يخاف، سأجرب الليلة، بعض الغزلان المذعورة تسرع نحوي، تأتي من اتجاه عكسي، تصدمني بقوة, أترنح, يسقط المزمار من يدي, يطير الكتاب من اليد الأخرى، وقلبي يرتجف.
يومٌ غريبٌ، بدأ بحلم، كنتُ فيه واعياً بعض الشيء، لم يكن الوعي عن إرادة مني، بقدر ماكان كسراً لعادتي في الأحلام، طيلة سنين عمري التي تخطت الثلاثين بقليل، كنت أستيقظ ناسياً كل ما رأيته في منامي، لا أعرف ما الذي تغير، حتي أتذكر كل شيء، الثعابين والشقوق، والجدار الذي أخشاه يحتضني ويبكي، منذ أن غابت وهجرتني، لا لشيء إلا الخوف المطلق، تخاف من كل شيء، من القطط والكلاب والفئران والثعابين، ومن الشقوق والثغور, ومن الغد، وارتفاع أسعار المياه والكهرباء والسلع الغذائية واختفاء الأرز والسُكر, ومن اختطاف الحبيب علي يد أي إمرأة مهما كانت.
انشغلتُ عنها قليلاً لظروف طارئة بالعمل، جمعتْ أغراضها وهجرتْ البيت، أحاول النسيان، أذهب للعمل، وأختلي بنفسي وقت الظهيرة، في مكان أفضله علي أطراف المدينة، أستظل تحت شجرة عتيقة، أحتسي قهوتي, وأقرأ ما تيسر لي من صفحات كتاب، أوأكتب ما يجول في خاطري، لا أنتظر من الدنيا شيئًا غير أنها تجود عليّ ببعض الأرواح النقية التي تعشق “الطبطبة”، أحتاج وبشدة بعضاً منها اليوم، قلبي مازال يرتجف، والحلم مازال يعشعش في رأسي، والهواء يطيّر صفحات الكتاب.
رأيتها أمامي، هذه المرأة التي تتردد علي المقهي يومياً، كل يوم تأتي بهيئة جديدة تساعدها علي التسول، مرات تصطحب معها طفلة شاحبة، وتمسك بيدها بأوراق، تقول عنها أنها تقارير طبية، وتردف: “بنتي محتاجة لعملية بالقلب، ساعدني بأي شيء”، ومرات تأتي وحدها، تحيط ذراعها بلفائف بيضاء متسخة كالجبس، وفي كل مرة لا يتغير ردّي عليها “الله يسهل لك “.
اليوم تقف أمامي طبيعية، لا تصطحب أحداً معها ولا تحمل بيديها أي أوراق، لم تسألني شيئاً، فقط كانت تثبت عينيها عليّ، كساحرة محترفة, وفي اللحظة التي كانت صفحات الكتاب يطيّرها الهواء، تحولتْ الشجرة إلي نخلة عملاقة، كلما نظرتُ إليها، ارتفعتْ أكثر وأكثر، حتي كادت تلامس السماء، خف جسدي، طرتُ مع الأوراق، تشبثتُ بجريدها العالي، بيد واحدة أحاول أن ألملم ما تبعثر منها، أنظر إلي أسفل، مازالت جذورها متشبثة بالأرض, وقُساة عراة من البشر يقذفونها بالحصي والحجر، أكاد أشتم رائحة طينها العفن، وهي تعلو وترتفع، يخترق جريدها السماء، تظهر سماء أخري شاهقة .
السماء تحت السماء، والأرض تظهر كبقعة سوداء أسفل السماء الأخري، أطير باتجاه القمر، يندفع آخرون مثلي، فيندفع غيرهم صوبنا كحبات من لؤلؤ منثور.
سألت أحدهم- وكان يحمل جهازاً يشبه اللاب توب- عن الناس والأرض وعن زوجتي?
أدار الجهاز، ظهرت زوجتي فوراً، ساء مظهرها، تحمل طفلاً صغيراً, وأربعة آخرون يتعلقون بملابسها، قالت: هم أبناؤك، وصمتت.
تتغير الصور علي الجهاز بطريقة مسرعة، الأبناء يكبرون، والأرض تكاد تضيق بهم، تحاصرهم الثعابين، مازالت الحركة في الجهاز مسرعة، والصور أصبحت مشوّشة، لكن ظلاً أسودَ يظل ثابتاً خلف جميع الصور المتلاحقة.
قال: قد يكون الظل عطاءً ممتداً، سألته أن يقرّب لي صورته، انتظرتُ طويلاً؛ حتي شاهدته يبكي، من عليائه يبكي علي الأرض .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق