عالم القصه

عبد النبي فرج. / مصر

كمان

الكمان
ـ1ـ
في الفترة الأخيرة لم يكن ينام جيدا “مستر عبد الله”، وليل الشتاء طويل يتقلب فيه من جانب إلى آخر، خاصة أنه لا يستطيع القراءة، أو مشاهدة التليفزيون، لأن زوجته السيدة سامية عبد البر تظل تفرك طوال النهار، ما بين فتح المكتبة، حتى ينتهي اليوم الدراسي وشؤون المنزل، من طهي وغسيل ومسح، ورعاية الأولاد … إلخ، لذلك عندما يهبط الليل وينتهي المسلسل الهندي، تضع أولادها في السرير، ثم تطفئ النور، لتستغرق في نومٍ عميقٍ.
يجلس في ظلام الغرفة، يسترسل في أحلام اليقظة، أو يستدعي فتاة ليمارس معها الحب، حتى يجد نفسه غارقًا في كوابيس سوداء، أخذ يرتب في المكتبة، ويضع على البنك الأدوات الناقصة، ثم جلس أمام الكمبيوتر، ليشاهد على اليوتيوب مقاطع فكاهية أو أغنية، وكان حظه حسنا، فبمجرد أن فتح اليوتيوب وجد عازفا للكمان أثيرا لديه، ضغط على المقطع، وانتظر صوت الكمان، ولكنه لم يخرج صوتا من الجهاز.
يري العازف العجوز يضع العود على كتفه وما بين يديه، ويعزف القطعة الموسيقية التي يحبها، والتي يشعر خلالها بالنشوة، لذلك بحث بسرعة عن موضع الخلل، نظر في السماعات، وجد سلك السماعة قد قُطِعَ، أُحبط وقال:
عقاب أولاد الجزمة السفلة هيكون مريع.
عاد ليجلس أمام الكمبيوتر، يشاهد العازف الماهر، ويحاول أن يتخيل الصوت داخل أذنه، يبحلق ويرى وجه العازف، يتقلب وجهه ما بين الحزن والمرارة والإنهاك، ماضيه كله مطبوع على وجهه، ارتعاشة مفاجئة أخرجته من استبطانه، تركه يعزف وحده في صمت، وخرج للشارع يتلفت في حذر، فلا أمان في هذه البلدة، لذلك فإن كل شقائه في المدرسة والمكتبة والدروس الخصوصية للطلبة معرض للضياع، من يحميه؟ وهو بلا ظهر يستند عليه، فمن السهل لأي خطأ مهما كان صغيرا، أن يتم التنكيل به وسحقه، أو سرقة المكتبة، وهو الذي يعيش على الكفاف بالفعل، ولا يريد أن ينزل إلي مستنقع الفقر أكثر من ذلك، فهو لا يطلب شيئا إلا الستر، في بلدة تشغي باللصوص وقطاع الطرق والهجامين.
كل هذا بسبب الكمان، كل هذا بسبب الموسيقى.
أحس بالحسرة والمقت، لمكر الشر المعقد والكامن في مناطق وأوجه وأصوات يستحيل الكشف عنها، إلا بالصدفة، أو لرجل قضي عمره بالنظر العقلي المحض. شعر أن الموسيقى نوع من الشر، نوع قاسٍ يدفعك للوحدة والغربة، تستذكر فيه تواريخ ووقائع سوداء، شريط دموي يمر أمامك، تراه بعينك متجسدا، ووقائع متعينة، موت جارك وهو يذبح أو يحرق عاريا ملطخا بالوحل، أو تجد ابن صديقك ينكب على أمه المقتولة وهو يستجديها أن تعود إلى الحياة.
جرح عميق في اللحم، يمس العظام، الروح فيه تهتك وتتعرى في مواجهة القوة الطاغية، الإجرام الذي يحولك لرقم، لماض، هنا ترى بعينيك ذاتك واضحة متجلية، ترى خوفك، خوفك وضعفك وهوانك، تظهر حقيقتك أمام ذاتك، وأنك في النهاية فرد عاجز وضعيف، في مواجهة وحوش، تغرس مخالبها بلا رحمة، تقتات على لحمك، تعري زوجتك ببلادة ووقاحة، دون أن تهتز، أو يرمش لها جفن.
ـ2ـ
رفض الطفل الأخير ،وقرر أن يحبطه، لقد وصله يقين ما أن المشاركة في هذه الجريمة عار، المساهمة في خلق كيان بريء ودفعه إلى عالم قاس مؤذ، بدون حماية أو أمَانٍ، لهو فوق كونه عبثا، هو سلوك أناني محتقر، لذلك بذل مجهودا مضنيا كي يقنع زوجته المحبة للأطفال بعدم الإنجاب مرة ثانية، ورغم ذلك وقع المحظور، وخرج للدنيا غلام أسمياه “منير”، ليس تيمنا باسم المطرب “محمد منير” فهما لا يطيقان صوته، ولكن هذا الاسم ارتبط لديه بحلم تكرر، يرى نورا مبهرا بالسماء، أو نجمة كبيرة تتألق، أو يرى شهبا نارية تندفع بقوة، كان الحلم يتقلب دائما بين الحريق والنور، ترسخت داخله حالة من الانقباض والوحشة والظلمة المريعة، لذلك انقطع عن لقاء الأصحاب، وفضل العزلة والعمل، العمل بدون خطة أو طموح، فقط العمل والنوم ،والعمل والنوم، وفى ليلة شاتية، انقطع الناس فيها عن السير في الطرق، وهو جالس أمام الكمبيوتر، يرتعش من البرد، ورغم ذلك يقلب في صفحات “النت”، حتى سمع بكاء، أنصت، كان ابنه منير يبكي بكاء موجعا وقاسيا، تجاهل الأمر في البداية، لكونه يعرف تدليل أمه له، بشكل “ماسخ”، وقد يكون طلبه غير واقعي، مثلما حدث قبل ذلك، حيث صحونا في منتصف الليل علي بكائه، حيث أراد الخروج من البيت ليلعب في الشارع.
” فكرة غبية انتابت الولد ، وأنا متعب وأريد أن أنام، وأمه تحايل فيه، وأنا أكظم غيظي، وعندما لم أجد فائدة، رميت البطانية من عليَّ، ونتشته من يد أمه، وسحبته، ونزلت به درجات السلم بسرعة، وكلما يكاد يسقط أرفعه، حتى خرجنا إلى الشارع، كانت ليلة سوداء، وعاصفة من البرد واجهتنا، أنا وهو، أنا وهو فقط، وقفنا في الشارع، هو يبكي، وأنا أرتعش من البرد والغضب والحنق، منتظرا أن يطل الجيران من الشبابيك، أو أسمع تقريعًا من عابر، خفت غضبي، لذلك تركته ووقفت، استندت على الحائط، شابكًا يدي في بعضها، منتظرا أن أعرف ماذا يريد من الخروج في هذا الوقت من الليل؟ نظرت، وجدت زوجتي بجواري، كنت أريدها أن تقوم بفعل ما، ولكن هي تعرفني جيدا، أنها لو تدخلت سيكون الأمر أشد سوءا، وقد أتصرف بجنون، لذلك التزمت الصمت، والولد لا يأبه بالصقيع، ولا بوقفتنا البائسة، كان يدور في شبه قوس، وقد صمت تماما، ولم يعد ينظر إلي، فقط ينظر إلى الأرض، خفت أن يكون الولد قد جن، أو أصيب بمرض ما، لم أجد حيلة، فاقتربت منه وهو يدور، ثم جلست في مواجهته، حاول أن يبعد وينفلت مني، ولكن التقطته واحتضنته بقوة، حاول الانفلات، ولكن قبضتي كانت قوية، قيدته واحتضنته بالقوة، قلبي على قلبه، وأخذت أملس على ظهره فاسترحت، حتى استسلم، فصعدت به إلى الشقة، وظللت ألعب معه، وأجري وراءه، وأقوم بدور العفريت لكي يخاف، وأنا أضع على وجهي جلبابا.
– أنا العفريت الكبير، أنا العفريت الكبير، اللي باكل العيال الصغننين.
أمه تندمج في الدور.
– يا خراابي، العفريت الكبير الشرير، استخبى.
ويجري “منير” يختبىء وراء ستارة، وأنا أتظاهر بأنني لا أراه، ثم أنقض عليه، ساعتها يكون في قمة الإثارة والفرح، وأحمله، وأظل أدغدغ فيه حتى يتعب، وفي الصباح التالي، وكأن لم يكن، لا يتذكر أي شيء، ولم يعد يكررها مرة ثانية، ويطلب الخروج.
البكاء استمر بصورة أكثر وحشية، فتصورت أنها تقوم بضربه، المكتبة في الدور الأرضي، تركت الجهاز والمكتبة مفتوحة، وجريت بسرعة، صعدت درج السلم، حتى وصلت للباب، لم يكن معي مفتاح للشقة، وزوجتي لا تترك أبدا الباب مفتوحا، رغم أن الباب الخارجي للبيت مغلق، وأنا أدخل من باب ملحق بالمكتبة، لذلك كان يزعجه هذا الأمر جدا، فكون زوجته لا تجد الأمَانَ، كارثة وعار عليه، كيف تسلل لها هذا الشعور المقيت؟ رغم أني أحاول طوال فترة زواجنا أن أشعرها بالأمان، ولكن هناك داخلها خوف لا يتزحزح، حتى إنها لا تستغرق في النوم إلا بعد أن أغلق المحل، وأنام جوارها، شيء فاسد في هذا المكان.
دققت على الباب بقوة، وعندما فتحتْ الباب، دخلتُ مندفعا، الواد بيعيط ليه؟ تلفت في الشقة، لم يكن هناك صوت، قالت: الواد نايم، ضحكت مني، فشعرت بالحرج، وعدت مرة ثانية، ولكن ما زلت أسمع صوت بكاء طفل في هذا المكان، تركت المكتبة وخرجت إلى الشارع، لا يوجد أحد، فالشتاء يكنس البشر، والشارع خال إلا من عروق البرد، تتبعت الصوت الذي يكسر القلب، وكلما اقتربت يبتعد الصوت بقدر المسافة، بكاء يوجع القلب، أبحث وأتلفت، لعلي أجد مصدرا للصوت، ولكن لم أجد مكانا محددا، فقط صوت يخرج من البيوت كلما ابتعدت، وكلما اقتربت من الباب يبتعد، وأنا خائف أن يخرج فجأة صاحب بيت، ويراني واقف أمام بيته، لذلك تراجعت، يتبعني الصوت بعويل مفجع، حتي جريت خوفا، وصلت البيت، أرهفت السمع وأنا أغلق المكتبة، وصعدت إلى الشقة وأغلقت الباب، ونمت بجوار زوجتي ملتصقا بها، مرهف السمع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق