عالم القصه

رباب كساب / مصر

بيضاء عاجية وسوداء ابنوسية

 

بيضاء عاجية وسوداء أبنوسية
اقتربت في حذر، قربت كفَّيْهَا من وجهها، تأمَّلت الأصابع المكتنزة القصيرة، داهمها شعور بأنها لا تصلح، الكفُّ ليست رَحْبَةً، الأصابع تبدو ملتحمة، تفرد الكف عن آخرها أبدا، لا يساوي شِبرُها أشبار الآخرين . لعبة تلعبها منذ صغرها . لا تصلح!
تسبل عينيها مُطبقة على دمعة، تلتفت، تسير بخطى بطيئة وحزن لا ينتهي.
أبلة نوال منعتها قديما، اليوم لا تعرف، لقد مرت سنوات طويلة، لو مدت يدها لن تتحرك بخفة، إنها ترقبهم جيدا، ترقب أصابعهم جميعا، تتوه منها أعمالهم بينما تركز في كفوفهم وحركة أصابعهم!
في الحجرة المجاورة كانت ترقد ألواحا كثيرة وبقايا ألوان تملأ الأرضية، وأثار أصابع تركت أصباغها بحركة متعمدة على الحوائط، وباليتة قديمة نشفت فيها الألوان كما جفت الفرش القديمة، أفردت لوحا أبيضَ وشرعت بقلمها الجاف ترسم خطوطا، لا ملامح واضحة، لم تستطع يوما أن ترسم، لكنها واصلت رسم خطوطها، بينما صوت الحجرة الأخرى يواصل شحذ أحزانها، تزداد حركتها على الورق، أحيانا تدور في سرعة وأحايين تكاد تقطع الورق بحدة سن قلمها الجاف، الصوت يعلو ويعلو، تزداد حركتها قوة، تتقافز الصرخات من داخلها خطوطا متداخلة، بدت للرائي كبكرة خيط فُردت على الأرض وتكورت الخيوط وتداخلت حتى بات يصعب فصلها!
بدأ الصوت الآتي من الحجرة المجاورة يخفُّ شيئا فشيئا حتى صمت تماما، تركت لوحتها وتحركت بخفة متلصِّصٍ لترى الحجرة خاوية بلا أحد، وحدها تماما، لا بل معه وحده، حاولت أن تقهر لحظة الخوف، حاولت ألا تنظر لأصابعها مرة أخرى، أن تنساها، ستصدق أنه ممكن، لماذا تفعل كأبلة نوال؟ لماذا صارت أبلة نوال؟ إنها تظلم أصابعها، إنها … تخاف.
وقفت في منتصف الحجرة تماما لا أحد بينها وبين التجربة، تساءلتْ: لماذا لا يعود من كان هنا ويأخذ يديها، يربت على كتفها ويحتضن كفها ويقول لا تخافي؟!
نظرت خلفها نحو باب الحجرة؛ لا أحد، لا صوت خطوة قريبة أو حتى بعيدة، بدا المكان كما لو كان قد فرغ إلا منها، تخفي يديها خلف ظهرها وتقف مسمرة تفكر، ما الفارق بين تلك اللوحة البيضاء التي خطت عليها بقلمها وأفرغت ما تملك وبين تلك الأصابع البيضاء والسوداء؟ لماذا لا تشخبط عليها هي الأخرى؟ أتخاف أن يسمع أحدٌ إزعاجها؟ أم أنها تخشى أن تمتهن ما تحب؟!
نهرت روحها كيف تقول تلك الكلمة، تعرف أن كل حب تلزمه خطوة جريئة، يحتاج خمشة أظافر، نقطة دماء تفجر ينبوع المشاعر المغلق، حتى الزجاجة المحكمة الغلق تلزمها قوة ورغبة حتى تستطيع فتحها.
اقتربت أكثر بينما يديها لازالتا خلف ظهرها، تلك المرة تأملت الأصابع البيضاء والسوداء، تعرف أعدادهم، مادة صنعهم، ميكانيكية حركتهم، لكن لا تعرف كيف تحركهم كما يفعلون، كيف تقرأ صفحات النوتة، لا تحفظ الألحان، يتعاظم صوت أبلة نوال : ما ينفعش تبقي هنا، إما هنا أو هناك، لم تلتقط رغبتها.
مضت إلى هناك وتركت حجرة نوال ولم تفارقها صورة زميلتها ذات الكف الرحبة والأصابع الطويلة الانسيابية وهي تتحرك بخفة.
بقت هناك، تردد الأناشيد، تؤدي تحية العلم على أنغام زميلتها، ترحب بالزائرين في حفلات المدرسة الكبرى، تقدم عروض الحركة لكنها – أبداً- لم تقدم على الاقتراب من الأصابع البيضاء والسوداء.
ها هي معهم وحدها، تحاول أن تتذكر بعض نغمات كانت تسمع زميلاتها يرددنها على السلم الموسيقي، يتخيلن مناضد الدرس آلات ويعزفن بلا صوت، فقط تتحرك أصابعهن الانسيابية عليها.
جلست على الكرسي الصغير الذي بلا ظهر، فردت ظهرها كما عازفة أوركسترا أوروبية، مدت يدها فاردة إياها على الأصابع البيضاء والسوداء معا، كان لملمس العاج والأبنوس سحر غريب، رغم قدم البيانو لازالت أصابعه ناعمة نعومة ربتت على قلبها، كملمس الحرير لجسدها، ضغطت بقوة صدحت الأوتار بنغم قوي غير متناسق، بدأت تحرك إصبعا وراء أخر، تتبادل الحركة بين الأبيض والأسود، بلا لحن محدد، بلا نوتة تقرأ منها، بلا ترجمة لأي شيء سوى لصخبها الداخلي، لم تسمع ما تعزف، هي فقط تحاور تلك الأصابع تحدثها، بدت أول لحظة قوية، بدت كصفعة، ثم ربتة، ثم حضن فدمع، فذوبان.
تصفيق حاد، تحية للجمهور تركت المقعد تراجعت خطوة للوراء ثم خطوة للجنب بعدت عن كرسيها، وقفت أمامهم تماما، أحنت رأسها إحناءة خفيفة، لامست كفها صدرها في امتنان حقيقي وهي لازالت تحني رأسها.
خرجت للشارع الفسيح المزدحم، لا أثر للزحام، لا أثر للناس، تسير على الرصيف بخطوات متقاطعة، راقصة، تعبر الشارع بلا خوف من السيارات، تغني .. تغني بصوت عال غير عابئة بالنظرات التي تلتهمها، لا أثر لأحد، لا أصوات سوى تلك النغمة التي تنبعث من هناك، من تلك الأصابع البيضاء والسوداء.
رباب كساب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق