سيرة شخصية للعصا
قصة قصيرة
زهير كريم
°°°°°°°
منذ زمن بعيد، بعيد جدا، فتح أحد الثوار باب الزنزانة، وكانت تفوح منه رائحة الضغينة، وينبعث من عينيه دخان الثأر، ثم وقف وجها لوجه أمام خصمه السجين، الضابط في الحرس الملكي. وكان الثائر يحمل عصاه، سلاحه الوحيد الذي اعتبره أفضل مايمكن استخدامه في الإنتقام من خصمه الشخصيّ، والذراع الطويلة للملك، والتي طالما كتمت أنفاس العدالة.
وفي الحقيقة أن العصا، سلاح لايحمل أية قيمة أو بسالة، هذا لأن الخصم كان شبه ميّت، إذ لايمكن لمن كان في حالته أن يرفع يدا، أويحرك رأسا، أويخر ج صوتا حتى لو كان على شكل سعال.
وحين لوّح الرجل الثائر ذو الجسد النحيل بعصاه، والتي كانت غليظة بطول خمسين سنتيمترا، برأس مدبب كأنه رأس رصاصة، كان الضابط ينظراليها بخوف لم يجربه من قبل، لم يجربه حتى في أشد المعارك التي خاضها قديما دفاعا عن الملك أو المملكة، ولقد كانت هذه العصا بالفعل سلاحا مخيفا له، ربما لأن شكلها ووظيفتها لا تنسجم أطلاقا مع تقاليد الفروسية، إنها مجرد شيء لايعبر إطلاقاعن فكرة المواجهة. ولايمكن لأحد أن يقول غير ذلك، فالمكان ليس حلبة مصارعة، حيث لا يحصل عند استخدام هذا السلاح، التفاعل المثير بين خصمين، ولانسمع أيضا مايعبر به المتفرجون عن الإستحسان لمهارة أحد المصارعين، إنه سلاح يحمل معه خزيه، لايعمل إلا في الأماكن الرطبة، قليلة الإضاءة. وصحيح جدا أن هذا الثائر الذي يحمل العصا، لديه تصورات حادة تتعلق بمفهوم العدالة، لكن هذه التصورات تبدو مناسبة لمن يفسرالعالم، وهو ينظر من النافذة الى زاوية واحدة، بينما العالم في الحقيقة، لايمكن تفسيره بإطمئنان، فهناك ريبة ترافق أيّ حكم قاطع ، وهذه الريبة لم تكن متوفرة في رأس الرجل الثائر الذي تعرض على مايبدو لتجربة عصا دخلت فتحة شرجه، وظل الألم يرهز في داخله بدون رحمة.
ثم بدأ السجان يحرك عصاه استعدادا لتنفيذ الحكم. والحقيقة أن الأحكام تصدر في هذه الحالة، عن ذات متفوقة بشكل مطلق، ضد ذات ممحوة بالمطلق، لاوجود لجمهور يقوم بالتصفيق، و لاوجود هنا للجنة من الحكام أصلا، في الوقت الذيكان به الرجل النحيل يمسك العصا، ويسحب ذكريات مؤلمة من رأسه، طرحها كدليل لايمكن العبث بمصداقيته، لهذا، لم يكن الطرف الآخر، الضابط الملكي، خصما بهذا المعنى الذي تقدمه النزالات على الحلبة، بل هو مجرد كيان خاسر منذ البدء، ولقد كان يسمع كيف أن الذكريات كانت تندلق من رأس خصمه. عندما كان الرجل الثائر يستعيد تفاصيل حكايتة الشخصية، وكانت عينا الضابط السجين زائغتين،وجسده يوشك على الإنهيار وهو يشم الرائحة المنبعثة من أنفاس السارد حتى ضاق صدره، وكان يغالب القيء المرّ، السائل الذي كان يفور في بلعومه. الأكثر رعبا من الفرجة القسرية، هو إنه لايستطيع إيقاف متابعته، كان عليه أن يتفرج حتى النهاية. وبعد دقائق، لم يكن الضابط في الحرس الملكي محتاجا لأكمال قصة الثائر، أغمض عينيه، وانشغل بضربات قلبه التي تتسارع، حسنا، هو الآخر كان بطلا لمشهد مشابه تماما، لم يكن صعبا استدعائه من خانات ذاكرته البعيدة، كان قد حمل يوما ما عصا مثل هذه، أو ربما كانت العصا نفسها، وبالطبع لم يكن قبل هذا العرض، يتذكر بشكل محدد وجه ضحيته الواقف أمامه الآن، الوجه الممتلئ بالضغينة ونفاد الصبر، لكنه في النهاية، أدرك مضمون الرسالة الواضح على الأقل، وعرف أن الأمر كله موجه الى مؤخرتة الكبيرة التي سوف تدخل التجربة المقدسة وحدها، وحدها مؤخرته وليس سواها من المواضع، وكان السجين الذي قبض عليه بعد الثورة على الملك، قد شعر باليأٍس وهو يواجه نظرات السجان الثائر ذو الشوارب الكثة والشعر الأشعث والعينين الحمراوين.
وحين تعرّق الضابط، حصل ذلك بغزارة، ظهرت بقع كبيرة على ملابسه، وارتجفت ساقاه، لكنه حافظ على توازنه متمسكا بآخر قطرات انسانيته المهددة، ثم وبشكل لا إراديّ، تقمص دور الضحية، أو تبادلها مع خصمه الذي يقوم بدور الجلاد الآن . وحتى يختبر قدراته الجسدية على تحمل الألم، دفع اصبعه الوسط ليصل عبر نسيج سروالة الى الموضع الذي سوف يدخل التجربة الصعبة، وكان متأكدا إنها المرة الاخيرة التي ستكون له فتحة شرج عادية مثل باقي البشر. وفي تلك اللحظة العصيبة تمنى بالفعل وبكامل الرضا، أن يقتصرالأمر على مضاجعة قاسية وحسب، إغتصاب على وجه الدقة، بالطبع سيكون الامر مؤثرا على المستوى النفسي، هكذا كان يفكر، لكن المعاناة في النهاية لن تستمر طويلا، حيث أن الضابط كان متيقنا من حكم الاعدام السريع: لن يشعر ميّت بالألم على كل حال، لا في مخرجة الممزق، ولا في قلبه المكسور. ثم استطرد فجأة، وكانت فكرة الموت بالطبع أكثر رعبا من عملية إغتصاب، تحدث هنا، بمثل هذه الظروف، أو في أي مكان آخر تحت ايّ ظرف آخر، قال: من المؤكد، لن يكون الأمر مؤثرا جدا فيما اذا حالفني الحظ، وحكموا علي بالسجن المؤبد، على الأقل سأبقى في هذه الزنزانة لسنوات طويلة، ولن أواجه اثناء ذلك نظرات الآخرين، سوف لن اكون مضطرا لأحمل عاري، وبنفس القدر الذي أكون فيه حرا في الخارج. لكن الرجل الذي كان أمامه لم يقم بالحركة التي تشير الى أنه سوف يفعلها مستخدما عضوه بديلا عن العصا، فقد كان الرجل في الخامسة والستين تقريبا، ولم تصدر منه إشارة أيضا على أنه سوف يستعين بآخرين متخصصين، شبان أكثر قدرة على الإيلاج البعيد، ثم تمنى في النهاية أن يتكلم الرجل، أن يفتح فمه لمرة واحدة فقط، أن يقول شيئا يشير الى أنه سوف يستدعي أحدا يقوم بالمهمة. حسنا، كان يفكك الأمر على طريقة اليائسين، قال مثلا: ما فائدة أن يضع المرء عصا بدل عضوه، العضو في الحقيقة أكثر تأثيرا واشباعا لفكرة الإنتقام، كان يفكر في كل هذا محاولا أن يجد منطقا يقنع به نفسه، بأن العصا ليست اكثر فاعلية على كل المستويات من العضو عندما يلج مؤخرة الخصم، قال أيضا: إن العصا هي عقوبة، صحيح أنها مميتة، تشوه الجسد وتترك آثارا لاتمحى، لكنها في النهاية لاتحمل طبيعة مخزية، بالفعل هي عقوبة وحسب، مثلها مثل الضرب بالسيف أو الشنق، لكن العضو أعمق معنى من ذلك. وفي النهاية توقف عن التفكير، ألغى حتى فكرة القيام بمحاولة التفاوض على أن يقوم سجانه بضربة قاتلة وسريعة تضع النهاية لحياته، أن يهشم رأسه بفأس، أو أن يلقيه في النهر مربوطا بحجر ثقيل، أو حتى لو ألقمه نار في فرن بدرجة حرارة تذيب الجسد. حسنا، كان الضابط السجين متيقنا أن الأمور في آخر المطاف سوف لن تسير على غير العادة، ولن تخرج أبدا عن استخدام العصا نفسها، والتي ادخلها يوما في مؤخرة خصومه، وهذا الواقف أمامه واحد منهم على الأرجح. ولم يتأخر الثائر كثيرا، لم يترك الضابط السابق في الحرس الملكي ينسج المناورات في رأسه، أو ينسج الاحلام ليسحب وجوده اليقظ الى منطقة آمنة، حتى ولو لبعض الوقت، أويستدعي ما يزدهر به الأمل من منابع بعيدة. وفي الحقيقة أن السجان كان كذلك من النوع الذي لايفضل سماع اسطوانة الإستعطاف، النص الهزلي المكرر، والذي غالبا ما يقرأه بالحاح أولئك الذين يعرفون أن مؤخراتهم سوف تتعرض لمرور العصا، لم يقدم أيضا خطبة حماسية كمدخل يسبق القيام بمهمته كما يفعلها المتبجحون، المتتقمون الذين يقذفون الكلمات المليئة بالعنجهية، بوجه خصومهم العالقين بالفخ، ولم يحاول أبدا أن يشرح بالضبط، كيف ستكون طبيعة العملية من حيث السرعة والبطء، أومايتعلق بعدد المرات التي سوف يدخل فيها هذا الشيء المدبب ويخرج في حركته المكوكية داخل الفتحة، لم يشرح فيما إذا كانت هذه الحركة مشابهة لطعن جسم ما، أم أنها ستحاكي عملية الرهز التي هي الطريقة التقليدية في ممارسة الجنس !!!، والحقيقة،بالرغم من أن العصا ليست عضوا جنسيا، لكنها على كل حال، وفي دلالتها النفسية هي عضو كذلك، عضو كبير بالحقيقة، كبير جدا الى الحد الذي يمكن أن يصل فيه الى المعدة، يمزق الاغشية، ويترك خلفه الكثير من الخراب. حسنا، هذا السجان يعرف انها مرة واحدة، مرة واحدة تكفي، هكذا حدث نفسه، لتبقى آثارها طوال العمر، الا إذا مات السجين أثناء ذلك بالطبع، وهذا ما يحصل عادة عندما لاترافق عملية الايلاج الخبرة الكافية. ولايبدو هذا الرجل النحيل المرتجف من شدة الحقد، خبيرا، فقد كانت يداه مضطربتين، ويظهر مستعجلا لتفريغ ماء الانتقام المتعفن في داخله منذ سنين طويلة. وعلى كل حال، كل شيء كان واضحا للطرفين في تلك اللحظات، وبالقدر الذي ظهر فيه المشهد المسحوب من ذاكرة السجان، والمعروض أمام خصمه لا غموض فيه، ولم يكن ثمة حوار بينهما، لن يحتاج الأمر لحوار لأن هذه الواقعة التي سوف تحصل بعد قليل لن تكون سوى تدوير لواقعة سابقة، وفي الواقع، لايمكن للسجين الذي يذوب من شدة الخوف، والذي كان يعمل في الحرس الملكي أن ينكر شيئا من هذا، لقد استخدم كذلك نفس العصا في يوم ما، شاهد الدم الذي سال من مؤخرة خصمه، الرجل الواقف أمامه الآن، والمتحفز بحماسة لإنهاء مهمته. في النهاية، لم يعتذرالضابط عن فعلته، لقد فكر بذلك في الواقع ، تمنى مثلا أن يتوسل بخصمه بكامل طاقة اللغة المخزونة بذاكرته طلبا للرحمة، لكنه لم يفعل، فقد كان كل شيء يشير الى أن الرجل الواقف أمامه، الرجل الذي دخلت العصا في مؤخرته يوما ما، لايمكن أن يسمح لحماسته أن تنطفئ، وبسبب كلمات توسّل باردة، لقد كان الضابط يائسا تماما وهذا كل شيء، يائسا لأنه أدرك منذ البداية أن لا بديل سوى أن تمرّ هذه العصا الغليضة في المسار المحدد لها سلفا، لكنه كان يفكررغم ذلك بفرصة أخيرة لتهدئة المخاوف العظيمة، يفكر بالعصا نفسها، يقول مثلا، الى أي مدى سوف تندفع، وهل يمكن أن تمزق أمعاءه فيموت بهذه الطريقة المأساوية، لكن هذا السؤال زاد من رعبه، فهو يعلم أن الموت ممكن جدا، وقد حدث أن مات بعض المعارضين للملك بالطريقة نفسها، أثناء ذلك، كان الرجل الثائر وهو يتحرك بخطوة أولى لتنفيذ عمليته، يشعر بأن عصا أخرى تشبه التي في يده، عصا السجين الواقف أمامه، لم تزل تقوم بحركة الرهز المؤلمة، و تسبب جراء ذلك وجعا دائما في مؤخرته. وحتى بعد عشر سنين من السجن، لم يتخلص من لحظة الرعب، لقد كانت الكوابيس تهاجمة في معظم الليالي، فيفز مرعوبا ويدفع يده الى الموضع ذاته، لكي يطمئن أن الأمر لم يكن سوى كابوس. وفي دقيقتين كان الضابط السابق في الحرس الملكي عاريا، ظهر كرشه كبيرا، وعضوه متلاشيا، ولون جسده ازرق، ثم القى نظرة منكسرة مليئة بالرعب على سجانه، فتلقاها الرجل الغاضب على انها محاولة أخيرة لطلب العفو، فسدد هو الآحر لخصمه نظرة حقد صافية، نظرة بدائية لم تلوثها فكرة التسامح، ثم طأطأ السجين رأسه، وبكى، نعم بكى، وقد انهار كيانه كله، شعر بالمحو التام ، شيء يشبه السقوط في الفراغ ، أو الضياع، نعم لقد شعر بالضياع قبل أن ينحني بحركة تبدو موغلة باليأس، أكثر من كونها شجاعة، أو قبولا لحركة العصا، أنزل سرواله ، فظهرت مؤخرته المترهلة، وكان على استعداد كامل لكي يوقع بفتحة مؤخرته على تحرير مقطعا آخر في سيرة العصا.