عالم القصه
رشيدة القدميري
عـــابـــــــر
تتشابكُ خيوطُ القصة في ذهنه… تجاوزَ السبعين من عمره، يعيش في بيت كبير جدا وحيدا، حزينا، موقعا هدنة دائمة مع الانتظار… بلاَ زوجة تؤنسُهُ في يومه الطويل، وتخدمه في مرضه، وبلا أبناء أو أحفاد يملأون المكان ضجيجا…
لهبٌ يَتصاعدُ من حنجرته الباردة، كلُّ الأشياء تبدو له تافهةً… باهتةً… حَدَّ غموض تكبرُ معه عباءة احتمالاته؛ لِتملأ كل الفراغات من حوله… تموتُ الكلمات عطشا قبل أن تولدَ في حلقه، يسودُ الصمتُ… يطولُ حبلُ وجعه ويَطولُ… بِقَدر الحزن الساكن في كل فصولِ عمره.
يُفْرغُ شحنة غضبه في تنهيدةٍ عميقةٍ، يتنفّسُ نظرات من ألمٍ… من قهرٍ… من ظلمٍ… من قسوةٍ… وحتى من نارٍ… فالصراخُ ممنوع على روح أشبعها الصقيعُ جلدا!…
حفر الزمن أخاديد بعمق تعبِ وحزنِ السنين على صفحة وجهه، أضعفت العللُ قوى جسمه، والأبيضُ الذي كسا رأسه يحكي ألف قصة وقصة، لا أحفاد يعيشون معه أو يزورونه ليرويها لهم…
عمر طويل مرَّ في لمح البصر، زرعَ الحزنَ بأعماق فؤاد العجوز مساحات لا تنتهي، أخذَ بعضا من روحه ورحلَ…
يوم جديدٌ… يجلسُ كعادته في شرفةٍ يُغلفُها وجعٌ صامتٌ بِحجم سنوات عمره الماضية والآتية… ينظر إلى الأرض وقد قصم ظهره ثقل الخيبات وكأنه يعقِدُ صلحا مع التراب الذي اقترب موعد عودته إليه…
لا أحد يسألُ عنه أو يطرقُ بابه، ينتظرُ مرور جار ممن ألِفَ وجوهم ليطلب منه بصوت مبحوح، أنهكه المرض، أن يشتري له بعض المواد الغذائية، وأحيانا بعض الفواكه…
يموتُ في اليوم ألف مرَّةٍ في انتظار أن يأويه السواد، لتغتاله الكوابيس بدم بارد في كل ليلة!… لكن على حين غِرة يمزج الفجر خيوطه بسواد الليل، فتولدُ شهقةُ صبح جديد…
ها هو، ككل يوم يجلسُ على نفس الكرسي وهدوء تام يُخيم على المكان… وكأن السكون يتشظّى من حزنه في صمت… كأُرجوحَة تعاندُ العاصفة… ينتظرُ نهايته…
عند مفترق الوجع، أدمن قلبه نَفْض الغبار عن جنباته ليتأكّد أنه على قَيْد حياةٍ…لا يرى حوله إلا موت الدفء… موت الوفاء… موت الإحساس… أما الذاكرة، فلا تسألوه عن الذاكرة! لم يعد يعشق التجوّل في سراديبها أو التوقفَ في محطاتها، لا يُكلِّم أحدا إلا للضرورة القصوى، ولا يكلمُهُ أحد… يعي تماما أنه ما عاد للعلاقات بين البشر وزْنٌ، وأن وجودهُ في هذه الحياة كعدمه، فكل واحدٍ في شرنقتِه الصغيرة، يَغزلُ “أَنَاهُ” بإتقانٍ تام، غير آبهٍ به وبكل ما يحدثُ له، يبتعدُ الجميع كل يوم أكثر عنه لتكبر المسافات بينه وبينهم في كل لحظة آلاف الأميال، ويَنضم الكل في النهاية إلى قائمةِ المغادرين من حياته طوعا أوكرها.
غابَ عن شرفته أسبوعا كاملا… لا أحدَ افتقدهُ أو انتبه لاختفائه…
وهاهُم اليوم جيرانه اجتمعوا… القريب منهم وحتى ذاك البعيد… كلهم حضروا… وقفوا أمام باب بيته، حين قدم رجال الشرطة بعد أن أبلغهم عامل النظافة عن رائحة كريهة تنبعثُ من منزلِه، فوجدُوا العجوز جثّة متعفنة… الكل تألَّم لنهايته الحزينة… لينهمك البعض في أخذ صورة للجسد الذي بدأ يتحلّلُ بهاتفه الذكي وينشرها في الحين على صفحات التواصل الاجتماعي، وينصرف البعض الآخر بسرعة لأشغاله…
فإلى متى؟ وإلى أيِّ حدٍّ سنتمادى في بناء أسوار تعانقُ السحاب وتُبعدنا عن كل مَنْ هم مِنْ حولنا؟
“مُجَرَّدُ سُؤال