لَمْ تَعُدْ لِلْبَدْلَةِ هَيْبَةٌ
شهِدت تلك الطرقات النائية، خطوات رجل ثري، يحسبُ لوقع قدمه ألفاً خوف اتساخ حذائه الثمين، كان يرمي ببصره ذات اليمين وذات الشمال، وهو ينتقم من ذكرياته بماركة مايرتديه من ملابس وإكسسوارات باهضة الثمن، اقترنت رائحة عطره الفواح بصورٍ من ذاكرته، وبصقيعٌ لايرحم، ومياه أمطار كانت تُحيط بجسدهِ الهزيل المتوسد للحجر، أوراق وأكياس متطايرة، حصى وقطع إسمنت ملأت الشارع النائي، مشهد كئيب لايمتُ للحياة بصلة، كان ذلك روتين الشاب المرتمي بين أحضان الضياع في ما مضى، حين سطا عمه على كلِ أملاكه بعد وفاة والديه بحادث، وهو لايزال ابن السابعة من عمرهِ،
لم يرأف بفقر حاله، أو يسأل عن مصيره أحد. لم يحمه من خبايا الطرقات إلا ذلك الكلب السائب الذي كان يلقي بجسدهِ المتعب من الجوع بجانبه، يدافع عنه بكلِ ضراوة وكأنه موصى عليه دون وصيّ. وفي كلِ مرة يعود بجروحٍ بليغة عَقبَ كل حرب ضارية ضد الكلاب المهاجمة لصديقه. راضٍ بفُتات الخبز المُقتسم مُناصفةً ورفيقه الباحث بين النفايات، أو حين يحسن عليهم أحد المارةِ بلقمة طعام نظيفة، كانت أذنه صماء عن نصائح الناس بأن يُغير من واقع حاله؛ بالبحث عن عمل ما، أو سكن لكونه شابا في مُقتبل العمر، ويمتلك من الصحةِ مايجنبه التسول، مبرراته وأعذاره لنفسه كانت المُنزلق الذي يجذبه إلى القاع كل ما فَكر ان يستمع لنصيحة أحدهم.
وفي صبيحة أحد الأيام التي تَميزت عن غيرها،
حين راحت يدٌ تهز كتف الشاب، وصوت جهور يُصاحبها وهو ينادي بصوت يبتغي الإيقاظ، سالم، سالم !
فتح الشاب عينيه بتململ والرؤية ضبابية لاتفصح عن صاحب الصوت، ومن الذي يناديه باسمه الذي بالكاد يتذكره، لفقره لقريب أو صديق يسميه به ؟
اضطر أن ينهض كي يبعد الكلب الذي كاد ينقض على الرجل مدافعاً عن صديقه، وهو يسأله مُستغربا:
-“من أنت؟ وماذا تُريد” ؟!
ردَّ الرجُل باسما:
– “أنا احد أقرباء أبيك، وجئتُ كيّ أخبرك بأن عمك توفى، وأنت الوريث الوحيد له. أتُريد أن تأتي معي أم تبقى مع صديقك الوفي هذا”؟
قالها وهو مبتسم لضراوة الصديق في الدفاع عن صديقه رغم الوهن البادي على محياه. لم تسعه الأرض بما رحُبت حين سمع المتسول من أخبار كالأحلام ، وراح يُلملم حاجياته المتسخة متهيئاً للعبور إلى الحياة الأخرى. وبعد سنهٍ وأكثر، قاطع انتشاءه من تغيير حاله، نباح ذلك الكلب المهرول نحوه، والذي لم ينسَ صاحبه وامتننانه للذي أطعمه فتات خبزٍ بالكادِ سدَ رمق جوعه يوما، ليعتلي صدره واقفاً لاهثاً يهز ذيله فرحاً بمن أتى، فَزِعَ سالم بما أصابه من بللٍ واتساخ من اعتلاء الكلب له، بردةِ فعلٍ آنية غير محسوب لها، أخرجَ من جنبهِ سلاحه ليرديه قتيلاً جراء مافعل ببدلتهِ الثمينة وهو يلعن ويسب فرحته. كان صوت الرصاصةِ مدوياً بأرجاء كل زاوية ضمت ذكراهم سوياً، واخترقت معنى الوفاء للروح التي قدمت حتى اخر لحظة عطاء. التفت الشاب المتباهي بحالهِ بعد التغيير، ولم يزل لسانه يسب بالشتائم، وسيل من اللعنات حتى أوقفتهُ أنيابٌ متلألئة بفعل الجوع والانتظار الطويل. كلابٌ سائبة، شرسة، جائعة ، اجتمعت اليوم بعد أن أُزيحَ عن طريقهم الكلب المُدافع عن صديقه في كل مرة، لتفوز كثرتهم على سلاحهِ، ولم تعد للبدلة هيبة.
٢٠١٨/١١/٢٧
هنـــد العميـــد/ العـــراق.