رائحة الحليب
إلى الصديقة غادة نبيل
من ورائنا تبدو المدينةُ خربةً وغارقةً في فوضى الضوء، على أن هذا –في الحقيقة- ليس كلَّ شيء، فخيالنا بخير، خيالنا -كما ترين- يانعًا لم يزل، والطريق التي نخطو فوقها واصلةٌ إلى الغابة.
مثلكِ، لستُ على ثقة كاملة بالحياة، ربما لأنها تبدو لي رخيصةً، دَبِقةً، عديمةَ الرائحة، تذكّرني بغاسلةِ الصحونِ سيئةِ الحظ، التي قضتْ شبابَها تتقلّبُ في أسِرَّة الطُّلّاب، إذ كانت امرأةً ضائعة، لا تألفُ سقفًا، ولا يألفُها سقف، غير أنني مجبولٌ -كما تعرفين- على الرهانات الخاسرة، وعلى التشبّبِ بالضائعات .. خائبات الرجاء.
لستُ على ثقة كاملة بالحياة، بل لستُ بالمطلق على ثقة بالحياة، مع ذلك، لم أقو يومًا -من فرط جُبني- على مقتِها، أو المجاهرةِ بمعاداتِها، إنها باختصار ما بقيَ لي، كلُّ ما بقيَ لي، حتى بعدما أسندْتُ خدَّ أمي ذات ليلةٍ إلى التراب، وعدتُ إلى البيت لأنامَ في فرشتها.
كيف لي أن أمقتَ الحياة! وقد كنتِ هناك دائمًا، مثلَ وعدٍ لا يحطُّ، ولا يطير، تمرّينَ في عجالة بجانبي، فلا ألمح منك سوى ذيلِ الفستان، ذيلِه فقط، ولا أملكُ إلا أن أتشمّم عطرَه، أو أتسمّعَ قطوَ حذائك في قلبي.
أكلّمكِ الآن من تحت ملاءة سعاد الحسيني، القماشة الناعمة التي كلما اهترأتْ تعتّقتْ رائحةُ الحليبِ فيها، أكلمك فأقول: صحيحٌ، المدينةُ وراءنا خربةٌ، كائناتُها شعاعاتٌ .. ذبذباتٌ .. طقطقةٌ .. فحيح، لكن هذا في الحقيقة ليس كلَّ شيء، فأولاً، نحن هنا، لدينا ما يكفي من حنطة وماء وزعتر، ولا يعوزنا إلا الأنامل التي تجيد الهمسَ في أذن الخميرة. ثانيًا، الغابةَ كما هي، قابعةً لم تزل في آخر الطريق التي نخطو فوقها الآن، حيث الأمهاتُ هناكَ جوعى، وينتظرنَ العائدينَ بالخبز.