الثقافةشعر فصحى

البهاء حسين

مصر

زوجة الأب التى نناديها بالجدة، لأنها تحرسنا بكُحّتها

شعر : البهاء حسين

:
كانت تحرس البيت بكُحّتها
طوال الليل
كأنها تبنى سورًا حوله
بنحنحة خفيفة
لم يكن البناء يستغرق وقتاً طويلاً
إذ يكفى أن ترفع الصوت
ليرتفع السور
لنصبح أنا وإخوتى بمأمن من اليُتم والعفاريت
وحين تطلع الشمس
تواصل جدتى تدفقها
حتى يعجّ النهار بها
كأنها تتخذ من فمها ذريعة لإصدار الأوامر
وإن لم تجد أحدًا
راحت تملى على الكتاكيت ما يجب أن تفعله
حتى الرجال كانوا يذعنون لفمها
كأنه مستقل عنها
كأنه فم العمدة
أو فوّهة بندقيته
،،
يدها هى الأخرى
كانت أقوى من أن تكون يد امرأة، أو رجل حتى
كانت قادرة على أن تصير عشًا
لقد دلتنى، حين كبرتُ
على أن العصافير خُلقتْ، ليكون للأشجار صوت
:
كم كانت هذه اليد بحاجة إلى جدتى
لتعرف الزقزقة
:
أبدا ًلن تعرفوا ما الذى تخفيه يدُ جدتى
لطالما رأيت خطوطها على أنها ضحايا بلا أسماء
يتمددون فى كفّها
لطالما بحثت فيها عن الطريقة التى كانت تضرب بها أمى
أو تلك التى تدير بها هواء البيت
عن أبى وهو يترك هيبته تحت تصرفها
كأنها أمه لا زوجته
:
كم كنا نزعق أنا وإخوتى على اسمها
كأنه سلاحنا
ثم نتذكر فجأة كيف كانت تهين أبانا
فتظلّ أفواهنا مفتوحة فى منتصف النداء
أتذكر حواديت أمى
كيف كانت جدتى تجرجرها من شعرها
وتمسح بها الأرض
لأنها ستنجب لأبى ذرية تمحو من قلبه
ذكرى ولديه المغدوريْن
أتذكر كل ذلك
لكن حين تبدأ جدتى فى الطبيخ
حين يتصاعد الدخان من ” الكانون”
حين يرتفع ويتجاوز بيتنا، الذى بلا سقف أصلاً
حين تحفظ لى “منابى” من اللحم
أنسى تمامًا ما قالته لى أمى
:
يا لطفولتى النهمة لأعمدة الدخان
كنت أشبع وأنا أراها، من خارج البيت
تصعد تدريجيًا إلى السماء
يا ما أرسلتُ مع الدخان حيرتى
لماذا يتزوج رجل عجوز مثل أبى
من فتاة تصغره بأربعين عامًا مثل أمى
ثم ينجب منها قفة أطفال ويموت
لماذا يموت
:
ما أشبه الحياة بكمين
يجارى ضحاياه
:
يا لجدتى التى لم تكن بحاجة لمن يدلّ أقدامها على الشوارع
بعد أن كبرتْ كثيرًا وفقدت نور عينيها
الشوارع التى حاولتُ، ذات يوم، أن أمسحها بأستيكة
ولم أفلح
يا للقشعريرة التى كانت تنتابنى
وأنا أرى يدها تتوسل فى انتظار الصدقات
أو حين تعدّ حصيلة يومها
وعندما تخطىء
أقول لها : يا جدتى
النقود كثيرة
فتفرز أصابعها نقودى الزائفة التى دسستُها للتو
ثم تنشر اللعنة فى كل اتجاه
على من أعطاها عملة مصنوعة
من ورق الكرّاسات
أو أغطية البيبسى المبططة
:
ما زلت أبحث فى كفك يا جدتى عنى
أنا الولد الذى آمن أن الفقر يمكن طلاؤه باللون الأبيض
لنصبح أغنياء
وأنه يمكن تقسيم الفضاء بالعدل
:
ما زلت أبحث عنك فى وجوه الشحاذات
لأضع جنيهاتى الحقيقية هذه المرة
فى يديك
لأرى كيف يذعن الناس لعينيك الخضراوين
رغم العمى
:
سأنتظرك هنا
على قارعة الحنين
سأطوف بذكرياتك
بملابسك السوداء التى لم يتجاسر عليها التراب
بعد موتك
سأطوف بك وأنت تجلسين القرفصاء
على المصطبة
تنشين الذباب ناحية البيوت التى تكرهك
وتتوعدين الحرّ برشّه بالماء
سأنتظرك فى نومى
لعل الأحلام تخاف منك وتأتينى بك
سأحضر لك العنب
أما البرتقال الذى دسّتْ فيه جارتك السمّ لأولادك
لأنها تحبّ أبى
فقد عاقبته أنا وإخوتى بالإهمال
لم نعد نأكل البرتقال
كما لم نعد بحاجة إلى كحتك
لأننا كبرنا
صرنا بدورنا نفتعل السعال، ليرعى أولادنا
وإن كان قلبى يأخذنى
إلى الدهن الذى تطبخين به
الرائحة
يأخذنى بلهفة يا جدتى
ناحية الدخان .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق