الثقافةعالم القصه

احمد الحلواني

السمكة

السمكة

“أنا كالسمكة اذ يلقيها الموج خارج البحر،
لا ملجأ لي إلَّا الماء ولا مطلب لي من إياه إلَّاه”.

“شمس التبريزي”

صباح بارد، تلحَّفت الشمس بسحبٍ سوداء ترفض الاستيقاظ في ذلك اليوم قارص البرودة، مدَّت أمي يدها بكوب اللبن الساخن تحثني على الانتهاء منه سريعًا حتى نصل لحلقة السمك كأول الزبائن قبل أن يتم بيع أفضله، فكلما بكرت بالحضور تحصل دائمًا على الأفضل، وفي عجالة أنهيت الكوب سعيدًا لأنها ستأخذني معها أخيرًا.
حلقة السمك عالم غريب لم اعتد رؤيته من قبل، نسير بين الطاولات الخشبية رائحة السمك الطازج تنبعث حولي من كل مكان، الباعة انعقدت هممهم، يتبارون في عرض بضاعتهم بشتى الطرق، تارة بالتلويح بسمكة كبيرة، وتارة أخرى بالمناداة على بضاعتهم الطازجة.. أسير متعلقًا بيدها في حالة من الانبهار الشديد.
فجأة وقعت عيني عليها، وقفت جامدًا لا أستجيب ليد أمي وهي تجذبني بشدة، وحين شعرتْ بجمودي استدارتْ تنظر لي باستغراب وتعجب، حينها لاحظتْ انبهاري بسمكة كبيرة، ارتسمت على وجهها ابتسامة كبيرة وضحكتْ قائلة:
– أتعجبك؟!
هززت رأسي في سعادة، وعيني لا تفارق تلك السمكة، شعرت أنها تومئ لي… حملقتُ في دهشة متسائلًا بيني وبين نفسي، هل لا زالت حية، مددت يدي بسرعة أمسك بها وكأني أخشى أن يأخذها غيري، أو أن تختفي فجأة، أسرتني ببريقها كنت أدري أن الأفق يحمل لي أحداث مثيرة، تلفَّت حولي لم أر كل هؤلاء البشر الذين يتماوجون في السوق، شعرت أني وحدي فقط أنا وتلك السمكة التي في يدي.
في طريق عودتنا للبيت كان إصراري الشديد أن لا أفارقها أبدًا، حضنتها بكل قوتي، وطوال الطريق كان هناك حديث صامت بيننا، ربما لم يسمعه أحد غيري، ترجوني أن ألقيها في الماء من جديد، أن أحررها من سجنها الأبدي، أعيد لها حياة انتزعتها يد غاشمة، أطلقها لتجوب البحار السبع وساعتها ستهديني كنوز الدنيا من اللؤلؤ والمرجان، وكلما استعطفتني زاد تمسكي بها خشية أن تتبخر في الهواء.
ينسكب ضوء الشمس من خلل شيش نافذة مطبخنا الخشبي، يتلاعب فوق قشور السمكة الملقاة على المنضدة القديمة، تتوهج فضية الملامح تخطف الأبصار… في خشوع أقف أرقب أمي وهي ترفعها من ذيلها وتنظر لها بسعادة، تلقيها على المنضدة وتمسَّدها بيدها، تبحث عن سكينها الحادة بين الأدراج الكثيرة، أنتظر.. وأنتظر.. تبدأ أمي في نزع القشور الفضية عن جسدها في سرعة ومهارة فائقة.. تنزلق السمكة في كل مرة .. تنظر لي أمي بدهشة واستغراب وتسألني:
– ما سبب وقوفك هكذا؟
تتنقل عيني بينها وبين السمكة التي تغمز لي بعينها، تبتسم أمي في حنان وتعود تسألني من جديد:
– هلا تساعدني قليلًا؟.. تعالى أمسك لي رأسها.. يبدو أن تلك السمكة لا تستسلم بسهولة، فهي تنزلق من يدي.
أقترب، وعيني لا تفارق السمكة لحظة واحدة وكأنها ستطير لأفق بعيد، تغمرني بهجة امتزجت بالخشوع، أمدُّ يدي الصغيرة أحاول أن أثبت رأسها الكبير وأنا موقن أنها ستستخرجه من جوفها، وتستمر أمي في نزع القشور وهي تقول لي:
– احترس من السكين فهي حادة.
أهز راسي بلا مبالاة، ولا يشغل بالي كل هذا الكلام فقد كنت أنتظر اللحظة الهامة دون أن تعرف… مشاعر متأججة تتلاعب بي، تنتهي من تقشير الجانب الأول وتقلبها على الجانب الآخر… أقول لأمي:
– هلا أسرعت قليلًا..
تنظر لي بدهشة، لا تفهم سببًا لهذا الجنون الذي يعتريني أمامها، تمصمص شفتيها ولا تعلق وتستمر في نزع القشور بجدية شديدة.
حين انتهت أخيرًا، أزاحتني بعيدًا وبدأت تشق بطنها بحرص وأنا أحملق باهتمام يتزايد، وضربات قلبي تتصاعد وهي تخرج أمعائها، تصطدم السكين بشيء صلب، تمدُّ يدها وتُخْرِج من جوفها شيء معدني مستدير علاه الصدأ، تنظر له بلا مبالاة وتقذفه من يدها في سلة المهملات، سرت رعدة في أوصالي.
لحظة تمنحني أفقًا واسعًا وأجنحةً بيضاء، أخيرا سيتحقق الحلم، أقفز صوب السلة، أبحث بأصابعي الصغيرة في كل محتوياتها، تأسرني الفكرة بقوة مذ أن حكى لي جدي القصة التي صارت تشكل وجداني، تنهرني أمي بلا فائدة.. كنت موقنًا أني سأجده ما أبحث عنه وكأنه قدري المنتظر.
أجده أخيرًا، أأخذه بيدي وأنطلق مهرولًا, أضعه تحت صنبور الماء أغسله بالصابون جيدًا، أزيل كل ما علق به من أوساخ… يتألق كشعاع من نور يخطف الأبصار، يشتعل بداخلي شعور متضارب ما بين وهج الفرحة والخوف من المجهول.
أتوجه لغرفتي التي يشاركني بها أخي الكبير، أدنو منه في هدوء حذر، يتقلب في الفراش، حمدت الله أني وجدته نائمًا فلا أريد أن يشاركني أحد هذا السر الكبير، أقفز فوق سريري ممسكًا به، أتطلع له بلهفة حاشدة وانبهار حالم، يبرق حجره الأحمر الكبير، أضعه في إصبعي الصغير ينكمش ليوافق إصبعي.
احكه بكل ما أوتيت من قوة، لا شيء يحدث.. أُحْبَط وتتساقط يدي، أنظر للفراغ، لا بد أن القصة من خيال جدي الجامح.. الغضب يملأ صدري، يتصاعد الدم في وجهي، هل كان جدي يسخر مني، هل كل الأمر مجرد خرافة لجذب فضولي وانتباهي؟!
لا.. ما كان جدي ليفعل هذا بي.. دائمًا صادقًا معي في كل ما أخبرني به لا بد أن هناك خطأ ما.. يجب أن أتذكر كل ما قاله جيدًا بالحرف الواحد، أعصر فكري لأتـذكر ما قاله لي.. نعم، ثلاث مرات.. يجب أن أحك الخاتم ثلاث مرات!!!
أعيد حك الخاتم من جديد، الأولى.. الثانية.. الثالثة.. وأنتظر، تنطلق سحب دخان بالغرفة، تضطرم نار علت لسقف الغرفة، ها هو الجني يخرج من خاتم سليمان، أسقط في هوة اللاوعي يحملني يد المارد بقوة من بين الدخان والنار يعلو صوته وهو يصرخ بي أحترق.. أحترق.
أفيق بعد فترة لا أعرف كم مضى من الوقت، أين أنا، المكان حولي كل شيء فيه مصبوغ باللون الأبيض، تقف فوق رأسي حوريتان يرتديان البياض… تبتسم إحداهما لي وهي تتجاذب الحديث مع الحورية الأخرى بهمس يصل لمسامعي:
– الحمد لله هاهو فاق أخيرًا، أخوه الكبير غط في النوم وهو مشعل سيجارته فاشتعل السرير، ولولا ستر الله لاحترق هو وأخوه!!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق