الثقافةشعر فصحى

د احمد مهدي الزبيدي

( القصيدة المدنية )
الإله القبلي / الإله المدني
قراءة في نصّين للشاعرين : كاظم الحجاج و عارف الساعدي .
___________________________

أعلم – جيدا – أنها مغامرة، فهي لا تخص الأفكار والمصطلحات والمفاهيم: إنها مواجهة وجها لوجه مع ( الشعر ) مع شاعرين (أقرب إلى قلبي مني) : الشاعر كاظم الحجاج والشاعر عارف الساعدي . ألم أقل لكم أنها مغامرة ؟! وستكون عند ( نصّين ) مشهورين : ( سفر المرايا ) و ( مدونة أعرابي ) هل من داع أن أدلكم على نسب النصين ؟
ولكن من المفيد أن أدلكم على سبب اختيارهما دون سواهما : فيهما ثيمة مشتركة ( الإله ) ، ومن المفيد – جدا – أن أدلكم على زمنهما : فسفر الحجاج عام 2000 ومدونة الساعدي عام 2017 او 2018 اذا ماكذبني الله .. أعني أن سفر الحجاج في زمن ( الدكتاتور ) ومدونة عارف بعد ( الدكتاتور ) وماذا يعني ؟ يقول رويس في كتابه ( روح الفلسفة الحديثة): (( مفهوم كانط عن الله مفهوم شجاع لأنه يرى أن الحقيقة نستطيع الحصول عليها، ولا نستمدها من أفكار فطرية أو تجربة خارجية، وإنما نصنعها بأنفسنا..)) كادت الدكتاتورية أن تحتكر كل الأشياء لـ ( الإله): الجامعات، المدارس، الأدب ، الفكر.. لاوجود شيء اسمه العراق إلا مع إله واحد اسمه ( صدام)، فالشاعر لزاما على ( نصّه) أن يمدح ( الله) لسببين، قَبَلي: لأن الله جعل الدكتاتور ينتسب إلى ( آل البيت!) ، وديني: أطيعوا( الله) .. و ( أولي الأمر ) فمن واجب ( المؤمن / المواطن) طاعة ( الله) وطاعة ( وليّه) .. كان الخطاب الشعري في زمن ( الله/ والي الأمر ) يغدق على ( الإله) بالثناء والحمد !!. ولكن أين الحجاج من طاعة ( الله) ؟ الحجاج ينطلق من رؤية ثقافية متمردة على الخطاب السلطوي بوعي يفلسف رؤيته الشعرية بنسق متمرد على ( المألوف ) الشعري والثقافي السائد أو المهيمن والجاثم على الجسد العراقي، أما عارف الساعدي فهو ينطلق من ( تمرد جمعي ) بعد هيمنة الخطاب الثقافي العراقي المتمرد على النظام السلطوي الديني، ومن هنا فإن منطلقه من ( أفكار خارجية وتجارب عامة) ..
لنتفق بدءا ، لا علاقة لي بالمستوى الجمالي للنصين ، فلو تحدثت عنهما، جماليا، لاكتفيت بجملة معيارية ( الله الله ) طربا وغناء لما فيهما من فرادة جمالية وبلاغية في صناعة صورهما الشعرية .. ما أعنيه النسق المنتج لصورة ( الإله/ الله) وكيف تحاور الشاعران معه، مع المخلتفين المتشابهين ؟ . والمغامرة الأخرى أنني سأبدأ من الساعدي لأمر في نفس المقال .
نص الساعدي أقرب إلى قصيدة القناع، فشخصية النص الرئيسة الأعرابية تتحرك في جسد النص بنسق درامي مباشر ولا حضور لذات الشاعر سوى خلف القناع، فلم يضايق شخصيته في أي مشهد ولم يشاركه بالحوار أو الحدث، لأنه ( كامن ) خلفه وبه وفيه ! بدءا من تعريف القناع بنفسه وتقلبات حياته ما بين ( الجاهلية / الإسلام ) ( القبيلة / الخليفة ) : ( ولدت بخاصرة في كهوف اليمن / قبل عشرين عاما من البعثة النبوية / أذكر أني ولدت / وما زلت أذكر كيف نصلي / ونعبد آلهة من حجر/ ونشد النذور على بابهم/ ونغسل أحلامنا بالمطر/ سلام على عدد الآلهة/ ثلاثون عشرون لا أتذكر / لكنهم كثر طيبون/ ثلاثون ربا ينامون في غرفة واحدة/ ثلاثون رباً ولكننا أمة واحدة / أتذكر أني تركت اليمن / وأدركت وجه النبي بمكة / صافحته مرتين / عطرا كان ذاك النبي/ ياخذ بالقلب قبل اليدين/ ولكنما يده الفارهة / كسرت أذرع الآلهة / ثم قال لنا/ إنما ربكم واحد واسمه الله/ لم نكن نعرف الله إلا قليلا/ ولم نك نعرف ان الإله/ الذي وحدته القبائل شتتها بعد حين ) . ليس سهلا على الذات الغنائية أن ( تتقنّع ) ، وإن تقنّعت فقناعها لا يحجب وضوحها ونرجسيتها.. فالقناع الشعري اعتاد أن يكون شخصية مستقاة من مرجعيات تاريخية أو واقعية، وهنا القناع ( المتخيَّل) هو جزء من غنائية الذات المنتجة للنص ، ومن جانب آخر فأن ( سلطة القبيلة ) ترثي نفسها، من ( سلطة الخليفة ) بمعنى أن الذات القبلية تهجو، تلميحا، الآخر الديني، سلطة تتصارع مع سلطة، قبيلة مع خليفة، فتعددية الآلهة هي تعددية ( القبائل العربية ) وهو تعدد ليس ديمقراطيا، إنما هو التنافس على الوجود، فالقبيلة تشرعن وجودها الكلي عبر الاعتراف بالوجود الكلي للآخر وإن كان سلبيا! من هنا نفهم أن النسق المحرك لحركة القناع هو النسق القبلي الجمعي لا النسق الفردي المدني الحر.. وعليه فإن الحوار مع ( الله ) يأتي من حوار ( الله الجاهلي مع الله الإسلامي ( إله القبيلة مع إله الخليفة ) فلم يكن منطلق التمرد من ذات متحررة من السلطة إنما راثية لها
لنتعرف على ( إله ) الحجاج : ((تدبّرت آلهة الأولين : رأيت إلهاً يدلل (أبناءه) / ويختار شعبا له! / ويُهمل أبناءه الآخرين!/ ورأيت إلهاً، يقود الأعاصير / ضد الخيام!/ وإلهاً يوصّي الزلازل بالفقراء!/ وآلهةً تتعطر فوق الضحايا/ وإله المطر/ يُهمل أفريقيا كلها / ويمطر فوق المحيط/ وآلهةٌ طيبين/ يخوضون في الوحل/ دون العباد/ وآلهةً تسرق النار للناس.. كي يطبخوا/ ولذا… / حين صليت / لم أتوضّأ بماء، يزكي يديْ/ فآلهتي.. / ضيّقون عليّ!)) الذات المتحررة ، هنا ، هي ذات أقرب ما تكون ( صوفية ) فالذات ( المفرد ) تهجو ( السلطة الجمع ) الحرية لايمكن أن تكون إلا ( فردية ) ومتحررة من تابوات ( السلطة) ف( التدبر ) وعي و( الأولين ) إشارة ثقافية إلى استمراية نسق السلطة الفوقية السلبية على ( الذات / المفردة الإيجابية ) فالإله ( يهمل/ يقود/ يوصي/ يسرق ) إنها أفعال ثقافية سلطوية على متحرر ( معارض) ولذا فإن دلالة ( عدم الوضوء/ عدم الرضوخ ) هي دلالة معارضة ومتمردة على الجمع (آلهتي ضيقون عليّ) ( السلطة الجمعية: آلهتي ) يقابله ( فرد متمرد متحرر عليّ) الفعل السلبي يقابله رد فعل إيجابي واع متحرر .. فنص الحجاج ورؤيته الفلسفية الواعية أقرب إلى النص المدني الذي أبحث عنه لأنه متجرد من السلطتين : القبلية والدينية ، وهذا ما عمل عليه كاظم الحجاج ، فإنه لا يستمد رؤيته الشعرية الفلسفية من أفكار فطرية أو جاهزة أو جمعية مألوفه، وإن كانت عنده ( صور شعرية مألوفة ويومية ) فهو يفلسفها بفرادته الشعرية.. أعتقد أن نص عارف الساعدي لما يستطع أن يفك من الأفكار الخارجية لأسباب سأتحدث عنها لاحقا . أما بعد : فشكرا لإبداع الشاعرين الذي شغل النقد ونام عن شوارده .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

إغلاق