الثقافةعالم القصه

نهى سليم

مصر

أنا ابنة الصباحات الباكرة وليالي الصمت الحزينة.
أنا ابنة الأعوام المهدرة والطبيعة.
تقول أمي لم يتعبني أحد من إخوتكِ ولا في حياتي كلها مثلكِ.
وأنا أحملكِ انقلب وضعكِ وكدت أموت، كنت تركلين بقوة، كنتِ تستعجلين الخروج، دومًا أنتِ متعجلة.
ولما أتيتِ إلى الدنيا لم ترحميني من المفاجأة.
كنتِ تتغيبين لساعات طويلة، لا أحد يعرف عنكِ شيئًا، الكل يبحث في كل مكان ولا أثر حتى لظلكِ وفي النهاية خمني أين كنا نجدكِ؟!
مرة من المرات وجدناكِ أسفل شجرة التوت تلعبين غير آبهة لليل ولا لما تركتيه خلفكِ من ذعر ودموع، أحدًا لم يسلم من الفزع بسببكِ وأنتِ صغيرة.
ويوم بدت عليكِ أول معالم الأنوثة لم يكن هنالك أحد قادر على ردعكِ إن أنتِ أردتِ فعل شيء.
علمتكِ أنوثتكِ التمرد وقدمتِ للعالم تمردًا من نوع آخر، تمردًا وعنادًا.
حين كنا نتنازع على أمر ما كنتِ تقولين لي لا تعانديني يا أمي تعرفين أن ما أريده هو ما سيحدث، ولا أذكر مرة ما أردته أنا حدث يومًا.
وكأية أم كنت أحلم بأن ألبسكِ فستان عرسكِ بيدي، أن أزفكِ لبيت زوجكِ، أن أحمل صغاركِ ولكنكِ كعادتكِ تمردتِ على الكبر.
كل الذين تقدموا لخطبتكِ لم يسلموا من فحصكِ، هذا لا يفهم شيء وهذا لا يريد إلا أن يأكل، يشرب، ينام ويتكاثر، ثم تصرخين الرجل الذى أريده يا أمي ينبغي أن يكون رجلًا بحق، أعيش معه أكثر من حياة، أعيش معه حتى بعد الموت.
ولا مرة فهمت ما الذى كانت تعنيه كلماتكِ، ولكني كنت أسمعكِ وأنا أنتظر ذاك اليوم الذى سترحميني فيه من العذاب، كنت أقول لكِ العمر يمضي، أريد أن أطمئن وكنتِ تبكين فأسكت، رقيق قلبكِ رغم كل ذلك!

تعرفين يا أمي إخوتي دائمًا ما كانوا يتشاجرون معي لأنني كنت عالة عليهم، كانوا يسبونني ويسدون كل منافذ الحياة بوجهي كي أتزوج وينزاح همي ومع ذلك لم أكرههم لحظة واحدة.
لا أكتمكِ للحظات شعرت فيها بالضعف وفكرت أن أهرب، وهربت بالفعل منهم للزواج.
لم أفحصه يا أمي هذي المرة، قبلته كما هو، وهو يكبرني بعشرة أعوام، قبلته وهو يصفعني، يشدني من شعري، يركلني حتى وأنا أحمل في أحشائي قطعة منه.
جنيني الأول مات يا أمي وما من أحد كان يشعر بي لحظتها، لا أحد يعرف ماذا يعني أن تأخذ أم عزاء صغيرها لا العكس، والأبشع من دون أن تراه.
وكبرت يا أمي، كبرت ولم أطلب الطلاق منه أبدًا، كبرت وأصبح لكِ حفيدان.
فرحت بهما رغم أنني طوال عمري كنت أحلم أن يهبني الله إناثًا.
حفيدكِ الكبير يوم أنجبته همست في أذنه أنت حبيبي، زوجي، ابني، أخي وأبي أما الصغير فلم أهمس له بشيء هو قال لي يومًا أنا عكازكِ يا أمي وكان.
العام الماضي رحل زوجي إلى الأبد ولا أعرف لمَ بكيت؟!
في أعوامه الأخيرة مرض، وهنت قواه، ولم أسمح لأحد أن يخدمه غيري، عذبه ذلك ولم أقصد ويوم وافته المنية عانقني بشدة، أعتذر باكيًا قائلًا أعرف أنكِ ستغفرين لي، أنا مطمئن لأنكِ ستذكريني دومًا، أنا نادم، نادم جدًا لأول مرة أدرك بشاعة العمر الذى مضى، سامحيني لأنني لم أقدم لكِ غير الوجع.
أذكره يا أمي كما أتنفس، لم يكن يومًا عشته معه بل عمرًا بأكمله، ولا أحد فينا بريء مائة في المائة، لا أحد فينا لا يطاق طوال الوقت.
إنها العشرة، العشرة يا أمي أقوى، أعظم وأبقى من الحب.
وكبرت، كبرت بما يكفي لأن أشعر بأنني حقًا عشت.
وظهرت على جسدي ووجهي معالم الكبر واكتسحت العروق الحمراء والزرقاء سيقاني، ورغم أنها شوهتني تمامًا، ووحدكِ تعرفين كيف كان هوسي بالجمال إلا أنني لم أخضع لعملية واحدة، تركتها لتذكرني بكل لحظة عشتها، تركتها لأبتسم لأنني بعد كل ذلك لازلت على قيد الحياة، شجرة لا رياح تسقطها ولا حتى تهزها، وزوجتُ حفيديكِ من بنتين طيبتين كنتِ سترضين عنهما لو أنكِ كنتِ هنا، وأصبحت جدة أيضًا.

تعرفون يا أولاد لأول مرة مذ سنوات أتحسس قبر جدتكم وأجده دافئًا.
….

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق