الثقافةعالم القصه

مصطفى نصــــر

الطريق الصعب

 

بعد موت زوجها بأيام ثلاثة خلت الشقة أمامها. أهلها الذين جاءوا لمواساتها؛ عادوا إلى بيوتهم بالأمس، وظلت هي وابنتها الصغيرة في الشقة الواسعة وحدهما. الطفلة نائمة تداعب الستارة الحمراء فوق السرير، تشدها بيدها الصغيرة وتناغيها.

خرجت رتيبة إلى الشرفة، تابعت الشارع، انحنت فوق الجدار لكى ترى دكان زوجها المغلق أسفل البيت، تنهدت في أسى، فمنذ أسبوع – لا أكثر – كان يقف تحت الشرفة يحدث زوجته. ترسل إليه الغداء عن طريق الحبل و” السبت “. وإذا مر بائع فاكهة – تعجبه – يشترى منها وينادى عليها، تنزل ” السبت “، يضع – هو – الفاكهة فيه.

الولد حلمى – صبيه – يشاركه الغداء الذي ترسله رتيبة إليه. جاء زوجها به ليساعده فى عمل الدكان بعد أن كثر الزبائن وأصبح الدكان مشهورا فى ” العصافرة ” بأنواع القصات التي يقدمها، قالت رتيبة:

–  هو أنا كنت ناقصة صبيك ؟!

–  الولد غلبان يا رتيبة، في حاجة لمساعدة.

تضحك، فحلمى هذا أكثر طولا من زوجها – هو أقل عمرا منه بسنوات قليلة جدا. لكنه طويل ونحيف. تذكرته عندما جاء أول مرة إلى الدكان، تابعته من شرفتها، كانت ملابسه مكرمشة، وبعضها ممزق، وآثار الخياطة واضحة بها، وعيناه تنظران إلى الأرض فى أسى وخجل.

دخلت رتيبة الشقة. ألحت أمها – بالأمس – لكى تأخذها معها هي والبنت الصغيرة. لكنها أصرت على البقاء فوالدها موظف على قد حاله، ولا يستطيع الإنفاق عليها وعلى ابنتها التى فى حاجة إلى علب اللبن الصناعي الكثيرة. قالت لأمها:

–  لن أذهب، سأظل هنا حتى أجد حلا لموضوع الدكان.

ملت ابنتها اللعب في الستارة الحمراء، فبكت، ثم حركت ساقيها ويديها، فركتهم،          وازداد بكاؤها.

رحلة طويلة بدأها حمدى – زوجها – منذ أن كان طفلا صغيرا. يخرج من المدرسة، يتناول طعامه،عادة ما يكون سندوتشات لأى طعام تعده أمه له، يلف الرغيف البلدي عدة لفات ويقضم اللقمة وهو سائر. فلابد أن يبدأ العمل فى الدكان قبل أن يأتي زبون واحد.

يصحو معلمه مع آذان الظهر، يصلى في المسجد القريب من الدكان، يتكاسل، يمد ساقيه الطويلتين فوق المقعد فى انتظار حمدي ليكنس الدكان، ويمسح بلاطه، ثم يمسح المرايا الكثيرة ويجهز العدة.

يتوافد الزبائن بعد ذلك، يجلسون فوق المقعد الكبير أمام المرآة، يتابع حمدي معلمه، عيناه لا تبتعدان عن رأس الزبون، يسرع بعد انتهاء الحلاقة، ينظف الملابس من الشعر العالق بها، يخرج الزبون القروش القليلة، يمسكها حمدي في تلذذ، يرميها في جيب جاكتته الواسع والعميق، يبقى فى الدكان إلى منتصف الليل،،أحيانا بعد ذلك بقليل، ويعود إلى البيت متعبا، فهو طوال الوقت واقف ومنحن على البلاط. القروش في جيبه تدفئه، يعطى لأمه – الغلبانة – بعضها، والباقي لن ينفقه – كما يفعل أقرانه – سيدخره، سيتمتع برؤيته كل ليلة، يبقى في فراشه طويلا، يعاند النوم سعيدا بالقروش التى اغتنمها من زبائن الدكان.

لم يحلم بأن يكون طبيبا أو معلما فى مدرسة، أو مهندسا في مصنع، أو أي شيء آخر من هذه الأماني، كل ما يشغله أن يمتلك محلا – مثل معلمه – يكون أكثر اتساعا من هذا الدكان، وبه ثلاثة مقاعد كبيرة للحلاقة، والزبائن أكثر.

الرحلة أطول مما كان يظن، فقد أخذه الدكان من الدراسة. ظروف أسرته لم تسمح له بأن يصل إلى الإعدادية. مرة فى مرة استطاع أن يستخدم المقعد الكبير الخالي وأن يحلق للزبائن مثل معلمه حتى أصبح له زبائن يأتون من أجله، وإذا وجدوه مشغولا،أو خارج الدكان ؛ ينتظرونه، وإذا طلب صاحب المحل أن يحلق لهم ؛ يعتذرون إليه فى أدب، فقد اعتادوا حلاقة حمدي لهم.

البقشيش لم يعد قروشا قليلة، كبر، أصبح ربع جنيه، ثم نصف جنيه بأكمله. لم تعد القروش تثقل جيبه وتعوق تقلبه فوق الفراش ؛ فالعملة المدفوعة له أصبحت كلها ورقية. واقترب الحلم من التحقيق ؛خاصة بعد أن رأى رتيبة تنظر من نافذتها فى الدور الأرضى في البيت المواجه للدكان، تقابله كل صباح بغمازتين فوق الخدين، وابتسامة خجلى، تسأله عن الساعة، ويطلب منها زجاجة مياه ساقعة من الثلاجة.يترك معلمه الدكان له، لم يعد يأتي بعد صلاة الظهر مباشرة، يتأخر – الآن – إلى ما بعد العصر، أو المغرب، وحمدي يعمل كل شيء.

والد رتيبة موظف حكومة، ملابسه بسيطة وأعباؤه العائلية ثقيلة، لكنه – رغم أى شيء – موظف حكومة ويصعب عليه أن تتزوج ابنته حلاقا. لكن حمدى لم ييأس فهو يحب رتيبة. والبنت أعلنت رأيها بلا مواربة أو خوف أو خجل، فهي تحبه ولن ترضى بغيره زوجا. المشكلة أن والدها وضع العقدة في المنشار: ” لكي تتزوجها، لابد أن يكون لديك دكانا خاصا بك وشقة. ” وعمل حمدي ليل نهار، كان يفتح الدكان قبل التاسعة، ولا يغلقه إلا بعد منتصف الليل، ويحمل حقيبته – فى يوم الاثنين – ويدور على البيوت، هناك زبائن يفضلون الحلاقة في بيوتهم، وآخرون حالتهم الصحية لا تسمح لهم بالخروج، وأولاد صغار لا تنفع الحلاقة لهم إلا بين أهلهم ؛ وفى أحضان أمهاتهم. النقود التى جمعها استأجر بها دكانا أكبر من دكان معلمه، ببابين كبيرين واستأجر شقة فى البيت نفسه لكن في العصافرة، نقوده لا تمكنه من استئجار شقة ودكان وسط البلد.

أحست رتيبة بلسعة برد وهى تقف في الشرفة، كما أن المكان أمامها مقبض ويدعو للخوف، الدكان مغلق، والمنطقة كلها مظلمة، ليس هناك محلات سواه.

دخلت شقتها، أغلقت باب الشيش والزجاج وسترت الستائر الثقيلة عليهما. تابعت وجه ابنتها القريب الشبه من وجه أبيها. سمعت دقات على الباب: ” يا ترى من الذى سيأتى الآن ؟ ‍” أمها لا يمكن أن تأتى متأخرة هكذا، كذلك أبوها وإخوتها. تكاسلت وهى تسير، فقد تكون ابنة صاحب البيت، فكثيرا ما تأتى لتتسامر معها وتحكى لها عن أشياء تافهة تحدث فى الحى. فتحت المزاليج الكثيرة، رأت عم الضوى يقف أمامها بقامته المديدة المنحنية من أثر السنين، قال:

–  كيف حالك يا هانم ؟

–  أهلا، تفضل.

ليس بينها وبين عم الضوى شيء، هو يسكن العصافرة منذ أن كانت جبلا، ويعرف كل الذين جاءوا إليها.

–  تعال يا حلمي، اطلع.

اقترب حلمى – صبى زوجها -، مد يده لها، صافحها متمتما بكلمات لم تسمعها، أحست بالقلق: ” ما الذى جاء بهما هكذا؟‍ فقد قدما واجب العزاء إليها يوم أن مات زوجها. قال الرجل:

–  حلمى يريد أن يفتح الدكان.

–  ماذا ؟

–  حرام أن يترك الدكان هكذا دون منفعة. الزبائن سيطيرون، ولابد أن نلحقهم قبل الذهاب إلى محلات أخرى.

قال حلمى – وكان صامتا طوال الوقت -:

–  والعدة، يمكن أن تصدأ وتبلى من تركها هكذا.

–  لكن…….

–  الأرزاق على الله يا ابنتي. وحلمي سيأخذ ما كان يأخذه من المرحوم، وكل شيء لك ولابنتك.

تقف رتيبة فى الشرفة، الشمس تملأ المكان تحتها. الزبائن يتراصون في الخارج، يتشمسون، كثير منهم يأتي ليجالس حلمي ويتسامر معه. فالولد حلو الحديث، وله أصدقاء كثيرون، بعكس زوجها الذي كان انطوائيا.

بعد الظهر ترسل الغداء لحلمى – كما كانت تفعل مع حمدى – يمسك – هو – الطعام ممتنا، يدعو لها ولابنتها بالخير. الذى يهمها الآن أن تكسب ثوابا فى شاب – مثل هذا – لا يهتم به أحد.

في المساء يغلق الدكان، ويصعد إليها، يشترى الحلوى للبنت الصغيرة. البنت اعتادت عليه، ترتمي في صدره عندما تراه. كانت تخافه وتبكى عندما تراه. يخرج النقود من جيوبه الكثيرة، جنيهات، وأنصاف جنيهات، وقروش كثيرة. يضع كل عملة فوق بعضها وتعدها معه. هذا هو إيراد اليوم.

أمها لا ترتاح لدخوله البيت هكذا، مهما كان هو شاب وهى امرأة صغيرة وجميلة:

–  يا ابنتي، أجرِّى الدكان وارتاحي.

لو أجرته لن تستطيع العيش هي وابنتها، فالمبلغ المحدد قليل، ولن يكفيها – هى وابنتها – عيش حاف.

بعد أيام قلائل جاء عم الضوى وحده. كان مرتبكا، قال في أسف:

–  أنا الذى جئت بحلمى إليك لكي يعمل في الدكان. كنت أريد خيرا لك وله، ولم أكن أعلم بما سيحدث.

–  وما الذى حدث ؟

–  الجيران يتحدثون، كيف يدخل شاب مثل هذا ويخرج على امرأة بلا رجل ؟!

بكت رتيبة، ما الذي تفعله. الرجل مات فجأة، ليس له دخل سوى دكان الحلاقة، وهى لا تعرف كيف تديره، كما أن إيجاره لا ينفع معها. قالت لعم الضوى:

–  وماذا ترى ؟

–  الأمر لله……

خرج الرجل دون أن يحل المشكلة. ماذا يريد منها ؛ أن تطرد حلمى الذى جاء به إليها،وتغلق الدكان، وتذهب إلى أبيها المثقل بالديون من أجل أسرته الكبيرة العدد؟!

فى الصباح استيقظت متأخرة فقد نامت متأخرة أيضا، عيناها متورمتان من أثر البكاء. سمعت صوت حلمى فى الشارع وهى مازالت فوق فراشها. لم تفتح الشرفة طوال اليوم، ولن ترسل إليه غداءه ككل يوم، فهي لم تعد غداء لنفسها. حزينة وقلقة ولا تعرف ما ذا تفعل.

فى المساء جاء ككل يوم، قال:

–  قلقت عليك..

–  لماذا ؟

قالتها بجفاء وجدية:

–  ظننتك مريضة.

كان منظرها يوحى بذلك، لم تضع المساحيق على وجهها ككل يوم. وشعرها غير مرتب، وعيناها متورمتان.

أخرج النقود من كل جيوبه، وضعها فوق المائدة الصغيرة. مدت البنت الصغيرة يدها، أمسكت ببعض النقود ولعبت بها فرحة. أخذ يعد النقود ويتحدث،ورتيبة شاردة، صاحت فجأة:

– حلمى، تتزوجني ؟

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق