بشوكة في حلقها وتُغنّي / سامية ساسي
أن تقرأ النثر وتصيح مع نهاية كل نص تقرأه “الله”؛ يعني أنك تدس يدك في جيب الشعر وتخرجها ممتلئة بالثمار، تخرجها لا شكّ بيضاء من غير سوء.
نعم؛ إن اليد التي تخلق لك عالمًا من الدهشة هي يدٌ تستطيع استمالة الجمال وتقصّيه ومنح الآخرين متعة تذوّقه، وذلك فعلا ما تفعله الشاعرة “سامية ساسي” في تجربتها النثرية.
في نصوص الشاعرة سامية ساسي من البساطة ما يقنع القارئ بتتبع الدرب حتى منتهاه ملاحقًا فراشة خفيفة وملونة، تلك الملاحقة المتأرجحة بين المغامرة والهدوء في آن معًا، حيث ستمرّ وأنت تتعقبها بالكثير من الورود وبالكثير من الحُفر التي يرتبها الصياد عادة في طريق فريسته المشتهاة، والفريسة هنا تحمل معنيين؛ أولهما: النص بذاته ولذاته، ذلك النص الذي تدنو قطوفه، وترى فيه ما تودّ أن تراه من جماليات بكعب عال وأناقة عفوية، مما يصيّره طريدة تقع لا محالة في الشرّك، ذلك النص هو ذاته الذي تجعل منه صاحبته طُعمًا للمتلقي، وثانيهما: هو القارئ الذي سرعان ما يقع في الفخاخ ليجد نفسه يلاحق الطعم/ النص في محاولة لاستنطاقه بما يشاء، ولكنه في الجوهر لا ينطق إلا بما تريد منه صاحبته.
إذن تجيد الشاعرة إشراك المتلقي باللعبة الشعرية، ومن ثم منحه الصدمة التي يرتجيها في القفلة التي عادة ما تكون هادئة رزينة غير أنها صادمة.
“كلُّ شيءٍ جاهزٌ الآن.
في كفّي أربعونَ حصّالةً.
الرّيحُ، شماليّةٌ.
وأنا، الحراميّةُ الوحيدةُ.
لأنني عاقّةٌ،
حينَ كان أبي يخافُ عليَّ الفقرَ حتّى ينبثقَ دمٌ من عيْنيْه،
كنتُ أقايضُ خوفهُ بـ ” أزهار الشرّ” لبودلير،
فلا يرى خيْرًا في عيْنيَّ.
أمّي
أُميَّةُ أبي،
قايضْتُها كاملةً مكمّلةً بـ “جاكلين” بيكاسو،
حتى لا تحدّثني عن صبر “الجازية “، والفقر الذي ليسَ عيبًا.
صديقي الذي لا يشبهُ “رامبو” في شيء، لكنّه يحبُّ الريحَ الإضافيّة في نَعْليْه،
قايَضَني رأسهُ الصغيرةَ بأربعينَ حصّالةً،
أربعينَ كاملةً، لا شيء فيها، غيرَ ريحٍ أبيعُها للمراكب التي منذُ أربعينَ عامًا، وبلا مُقايضةٍ ،
تغادر الميناء من دوني.”
تعتمد سامية ساسي في بناء نصوصها على المفارقة، حيث كثيرًا ما يجد القارئ نفسه أمام مقدمات كثيرة تنتهي بنتائج غير متوقعة، إذ النص مبنيٌّ بشكل درامي، ويحمل في طياته ذلك الصراع المستمر بين الذات والموضوع، غير أنه لا يحمّل القارئ جهدًا كبيرًا لاستبيان مراميه سواء السياقية، أو البنائية.
“عارضةُ أزياء بيدٍ واحدة.
طويلةُ القامةِ كصفصافةٍ،
يُمكنني أن أزحفَ على بطني،
أن أكسِرَ أظفاري في شقوق الجدران
حينَ أخضرُّ وحيدةً على عتبة الموانئ .
أنا، الصّلعاءُ التي تُغني على الأرصفة القاحلة،
يُمكنني أن أُقبِّل الله حين أُصلّي،
أن أنزفَ من عينيَّ حين أعطش
وأُنجبَ عميانًا وشحّاذين يغفرون لي.
أنا،
عارضةُ أزيائي، هنا،
مبتورةُ الأطراف كصفصافة ،
يُمكنني، أن أقطعَ يدي
لأجل شاعرٍ بيدٍ واحدة، أراد في نهاية العرض أن يُصفّق.”
أيضًا يستطيع القارئ أن يلمس قدرة الشاعرة على استخدام تقنية الومضة في نصوص كثيرة، حيث العبارة التي لا تزيد ولا تنقص كما لو أنها ثوب بقياسات دقيقة، لكنها تضيء مثل “فلاش” الكاميرة مما يترك الضوء يومض فترة في عيني المتلقي.
” نحن الذين نقرأ كحقول
لانكتب كطواحين”.
ولعل الجملة التي اتخذتُها عنوانًا لهذي القراءة السريعة خيرُ تعريف بشعرية سامية ساسي وأسلوبها في التعاطي مع الكتابة بوصفها غناء بحنجرة مجروحة.