الثقافةشعر فصحى

نامق عبد ذيب

المه‍جرون

المُهجّرون
نامق عبد ذيب
شاعر عراقي
.
.
ها نحنُ نتشرّدُ, دفعتْنا الريحُ إلى دمعةٍ في الظلام
وتركتْنا الغيومُ موزّعينَ, لا السماءُ تمطرُنا, ولا الحقولُ تحتضنُنا
كأننا مُوكَلونَ بالخرائطِ نرسمُها ونمزِّقُها
تدفعُنا الحدودُ إلى آخر المخافر وتتقيؤُنا المدنُ في دروبِها
مفاتيحُ بيوتِنا صدئة وهوياتُ أحوالِنا ممزّقةٌ وقلوبُنا شاحبة
لا وطنَ يجمعُ ما تناثرَ من أحلامِنا ولا بيوتَ تعرفُنا
تركْنا أغاني الحصاد وصِرْنا جنادبَ نتقافزُ بين الهشيم
تذرونا الطوائفُ وتنكرُنا الدياناتُ
لا هويةَ لنا إلا ما يكتبُهُ المجلسُ البلدي من أسماءَ
تقتلُنا الميليشياتُ ويذبحُنا المتطرفون ويطردُنا المترفون
نرتبكُ في السيطراتِ فننسى وجوهَنا
نقولُ لها ما تريدُ من أسماء ونُطَمْئِنُ الجنديَّ المُريبَ بضحكةٍ خادعة
غُربتُنا مُضاعفةٌ, أهلُنا ينكرونَ وجوهَنا والغرباءُ يطردوننا
جوازاتُنا مشبوهةٌ والمطاراتُ تتقيؤنا
قلتُ للدَّرَكيِّ الغريبِ في صالةِ المطارِ : أنا من العراق , فأشاحَ بوجهِهِ عنّي
وقلتُ للبائعِ في سوق المدينةِ البعيدةِ هويتي فتركني واتجهَ نحو امرأةٍ شقراء
لا لغةَ لنا , نلثغ بحروفٍ غريبةٍ نتصيّدُ بها حاجاتِنا
ليلُنا مظلمُ, والنجومُ التي نعرفُها لم تعدْ تعرفُنا
نحاولُ إثارةَ ما تبقّى في صدورنا من حنين فتخنقُنا القسوةُ
تنبتُ في صدورنا الأحجارُ وتمزِّقُ رئاتِنا الشهقات
نحملُ بيوتَنا فوق ظهورنا مثلَ سلاحفَ هرمة
تطاردُنا التسمياتُ : نازحون أم مهجَّرون أم مهاجرون
أم لاجئون في الـ UN لا فرقَ،
نحن بعيدونَ عن بيوتِنا أيتها البلاد, بعيدونَ عن أحلامِنا
تركناها هنالكَ فوق الوسائدِ الممزقة, تركنا الحقولَ تطيرُ على أجنحةِ الغربان
تركنا المدارسَ تنتحبُ في كتبِ التاريخ, تركنا الصّباحاتِ وحيدةً بلا شمسٍ
تركنا النجومَ المضيئةَ سوى ما يتناثرُ من أرواحِنا من شرارات
وها نحنُ نطيرُ مثلَ أسرابٍ بلا فصول
يدهشنا الخريف بصُفرتِهِ الضائعةِ في شتاءٍ لا مطرَ فيهِ ولا غيوم
قلتُ لامرأة ضائعةٍ : أين نحن ؟
– في السراب
قلتُ لطفلٍ : أين أبوك ؟
– في الخرابِ
تركنا الحبيباتِ وحيداتٍ يمضغنَ أغانيَهنَّ في ما لا يعرفْنَ
من غفران وما لا يصلهنَّ من رسائل وما لا يدركْنَ من مواعيد
كلُّ أغنيةٍ نشيدٌ , وكلُّ نشيدٍ عواء ، كلُّ حائطٍ بيتٌ , وكل قُماشةٍ باب
نلمُّ أحلامَنا في الحقائبِ المُمزّقةِ ونشدُّ حياتَنا بأحزمةِ النكران
ليس لنا ما لنا, ولهم كلُّ ما لنا
طُردْنا من أرواحِنا, نلوحُ هائمينَ في قيامة الوطن
ونحدِّقُ مأسورينَ خلْفَ سياجِ ضياعِنا
لا معنى لنا سوى ما يتساقطُ فينا من شهقاتٍ لا تسرُّ الناظرين
كلّما مشينا سقطْنا في الكبوات, كلّما عبرنا أخذتْنا الجسورُ إلى العبَرات
أشلاؤنا تتوزّعُ في الحروبِ المُريبةِ وأناشيدُنا تشتجرُ في العتابات المختنقة
كلُّ صهيلٍ حشرجةٌ في الغياب
والعرباتُ الغريبةُ تأخذنا لدروبٍ قلَّ سالكوها تُلقي بنا في الصدى
فيُنكرنا الجبلُ العنيد , يُنكرنا قبلَ صياحِ الديكِ هنالكَ على الحائط البعيد
هنالكَ في البيوتِ المطمئنةِ, في الجسورِ توصلُنا إلى الفرات
في الفراتِ يحتضنُ ما لنا من رقرقات ,هنالكَ الأغاني عتابة والمواويلُ سحابة
هنالكَ البعيدُ كيومٍ سابقٍ لا غدَ له, الحائرِ في المنافي التي ما خبرناها
نعتصمُ بما لنا من حشرجات
قلتُ لها إلى أين يوصلُنا الطريق ؟
– للحريق
إلى أين توصلُنا الريح ؟
– للفحيح
ولكنّنا منذ عامينِ لم نَصِلْ, تأخذُنا المحطّاتُ إلى مثلها
وتُبعدُنا المنافي إلى شبيهاتِها, نسينا ما حفظناهُ من آمالنا
انقطعتْ بنا الدروبُ , عبرْنا جسوراً قلَّ عابروها
نثرتْنا الليالي :
تحت كلِّ نجمةٍ طفلٌ يرتدي لوعةَ ضياعِهِ
تحت كلِّ نجمةٍ رجلٌ بأسمالِهِ,
تحت كلِّ نجمةٍ امرأةٌ يرتبكُ قلبُها في الصدأ
ونحن الترابُ في ذاكرةِ الوردةِ الذابلة, نحنُ البلاءُ في عنفوانِهِ
نتقافزُ كاليراعاتِ حول شموعِ بلاءاتِنا
الليلُ فاتحتُنا للكوابيس والنهاراتُ عَطالتُنا الخائبة
نركضُ خلفَ الهوياتِ ولا أسماءَ لنا
يردُّنا الشرطيُّ ويوقفُنا المُلتحيُّ
قلتُ لأحدِهم ذلك بيتي البعيد دعني أمرُّ
فأشاحَ بوجههِ يقرأ ما تيسَّرَ لهُ من سورةِ الرعب
نحن العابرونَ من الموت الواصلونَ للموت
حاملو بطاقات الـ كِي كارد تُصْدِرُها الحكوماتُ لمخاتلةِ أحلامنا
نصطفُّ في المنظّماتِ نبحثُ عن إنسانيتنا المشتراة
يبيعنا البرلمانيُّ للبرلمانيِّ ويدفعُنا الكفيلُ للكفيل
تُغري بنا السّيطراتُ السّيطراتِ ويطردُنا أمامَ زوجاتِنا مانحو الهبات
ينكرُنا الأقرباءُ والغرباء التعساءُ
الذين لطموا وجوهَهم فسالتْ الأشجارُ من أرواحهم
البؤساءُ، مخدِّرو الأمل
عابرو الدروب نحو ضياعِهم رافعو أياديهم باتجاهِ سماءٍ بعيدة
المهاجرونَ المُهجّرونَ النازحونَ اللاجئونَ المَطرودونَ
المَكروهونَ المُبعدونَ الضائعونَ التائهونَ المَقطوعــونَ
اللاهثونَ العاطلونَ المُتناقصونَ المُتكاثرونَ في المنافي
أولو اللامكان واللازمان
علينا السلام
.
.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

إغلاق