شعر فصحى

باهرة عبد اللطيف

مقاطع من ” ليست مرثية لأبي”

باهرة عبداللطيف*

-1-
أبي كانَ يُسرّحُ شعرَ خيلهِ
بأصابع منتظمة
كمشطٍ عاجيّ
يدّخرُ ابتسامتَهُ لها
ويحاورُها بصمتهِ..
أنيقاً مُنتشياً بصهيلِ أفراسِهِ
كانَ يُدوّرُ مُحركَ (الشفروليت)
نحو مقهىً قديم
يُنادمُ فيهِ الرفاق
يدسُّ في راحةِ آخرِ شحاذٍ
دِفئاً وطعامَ يومٍ قادم

-2-
عَطوفاً كان يحدبُ على أخطائهِ
“مثالياً”
في كل تفاصيلهِ
(حتى في خيانتهِ
إيّانا)
احترقتْ سماءُ البيتِ
فأطفأَها
بسحابةِ صمتِهِ
وانسحبَ نحوَ ظهيرةِ
الغواية
ارتحلَ الى مُدنِ الضجيجِ
واحتفظَ بصورتِهِ
تتأرجحُ على جدارِ
عُمرِنا

-3-
كانَ يعشقُ “الستّ” و”عبد الوهاب”..
في الحاديةَ عشرةَ ليلاً
يصمتُ الإله
كي يُصغي لصوتِ كوكبِهِ
الصدّاح
حينَ يجنُّ الليلُ
و”يخلو الا من الباكي”
تجفلُ أحلامُ أبي
تنهضُ من سباتِ مُدنٍ غزاها
وأخرى داعبتْ
مُخيلةَ “الفارسِ اليتيم”

-4-
النساءُ كنَّ مُقدمّاتٍ
لا نهايات
لمدنٍ تقحّمَها بشهوةِ
الفاتحِ
لكنّهُ اكتفى منها
بعتبةٍ وظلالِ
ذكريات
وظلّ مصلوباً
على لوائحِ الأقدار

-5-
ككلّ الاشكاليينَ
كان مُربِكاً في حياتهِ
لمنْ حولَهُ
عاشَ مُحتشداً بأناه
تنشدُ كبرياؤه خلسةً
تواطؤ الآخرين
قبْلَ الرحيلِ يأساً
مِن فهمِ نفسِه

-6-
أبي
احتاجَ إلى ثمانينَ حولاً
من القوةِ
وحروباً ترشحُ
فقداناً أمضّ من الموتِ
قبل أن يدركَ
أنّه ابننا…!

–7
كان يرممُ حجرةَ موتهِ
منذ الصباح
يستنجدُ بالبنائين
كي ينهوا طلاءها
قبل الغروب
ليهدهدَ فيها حزنَ
آخرِ النهار

-8-
جدلياً كانَ في حياتهِ
جدلياً
في موتِهِ
بعينينِ مفتوحتينِ
على أقصى عُشبةٍ
في الحديقةِ المُشمِسةِ
فتحَ للموتِ أبوابَهُ الموصدة
عانقَهُ بلا حماسٍ
وأسلمَهُ مفتاحَ سرّهِ

-9-
مُرتَحِلاً بلا زادٍ
ولا تلويحةَ وداعٍ
كالطغاةِ
وحيداً
كالمهجورين
لا كفّ تربّتُ
لا صوتَ يتمتمُ
تعويذةَ الأفول
لا ترتيل قرآنٍ
علّ نفسَهُ الحائرة
تنسلُّ
مطمئنةً آمنة

–10-
نشيجُ الحروفِ المتساقطةِ
من مطبعتهِ العريقة
يقطعُ صَمتَ كُتُبهِ
يتأسّى بأسراب سُطورٍ
في سَديم الغيبِ
محلّقةً
صَفّتْها
أصابعُ مترفةٌ
بصبرِ حكيمٍ سومري
حزين

-11-
ما كانَ وحدهُ
هو المتعددُ في وحشتِهِ
جوقُ ندامى ارتحلَ
معهُ الى قبرهِ
يسامرون وحدتَهُ
المضاءةَ بأحلامِهِ المؤجلة
وانتشاء عنفوانِه الأزلي

12–
أبي ماتَ مفتوحَ العينين
أبي عاشَ مفتوحَ العينين
على سعتيهما
حَرَثَ عُمرَهُ بهمةِ زاهدٍ
وأفناهُ بحرصِ مُرابٍ
عتيد

-13-
شهادةُ وفاتهِ
وثيقةُ ميلادهِ:
مُوحَشاً في حياتهِ
صادِماً بوحدتهِ
ومكتمِلاً بموتهِ

……………

*كاتبة ومترجمة وأكاديمية عراقية مقيمة في أسبانيا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق