الثقافةعالم القصه

فرحات جنيدى

سيدة القطار

أفسحت لها الطريق فتعلقت في قميصي وتسللت أظافرها فجرحتني ، رفعت رأسها تشكرني فتلعثم لسانها وأدمعت عيناها , وبعد لحظات من الصمت همست لي معتذرة فداوى صوتها العذب جراحي وأنستني عذوبته خسارة قميصي ، فابتسمت في وجهها وقلت : لقد لحقتي بالقطار ولحقتني الخسارة .

قالت : لا تحزن يا ولدي عندما نصل للمحطة القادمة سأعوضك خسارتك بقميصين للشتاء وقميصين للصيف ، والآن يا ولدي خذ بيدي إلى العربة الأولى للقطار .

فقلت بتعجب : لماذا الأولى ؟! هنا مقعد خالي .

ابتسمت وقالت : هناك مقعدى بين الكبار .

أمسكت بيدها وتقدمنا إلى الأمام وكلما تقدمنا خطوة أفسح لنا الناس الطريق وقدموا لنا التحية ، أصابتني الدهشة وارتسمت علامات التعجب على وجهى ، وانشغل عقلي بكلمة ولدي ووجدتني أسأل نفسي كيف تناديني بولدي ؟ كيف وهى الزهرة البكر التي لم يتمتع أحد بشذاها ؟ ثم ضحكت وقلت لنفسي : ربما سحر صوتها أو جمال طَلَّتها جعلتني لا أراها على حقيقتها .

مضينا نحو العربة الأولى وفي طريقنا نهض أحد الشباب ودعاها للجلوس مكانه على الرغم من ازدحام العربة ، إتكأت على يدي فجلست فطلبت منها الإذن لأتركها وأبحث لي عن أي مقعدٍ في أي عربة فقالت : لم نصل بعد للعربة الأولى إن كنت تنوي أن تكمل معي وإن كنت على عجلٍ من أمرك فيكفيني أن تظل بجواري حتى نصل إلى المحطة القادمة وتأخذ ما وعدتك به .

فقلت : لا تشغلي بالك بي فأنا لن أقبل منك العوض .

قالت : تلك هدية والنبي ” صلى الله عليه وسلم ” قبل الهدية فاقبلها وكن من المحبين .

فتحت فمي لأرد فأشارت لي بالصمت واقتربت برأسها من أُذُن من دعاها للجلوس فهمست له بكلمات ولم تُطل ثم أخرجت من حقيبة يدها شيئًا وأعطته له فقبل يدها فصاح كل من في العربة وعلت أصواتهم بالدعاء فأحنت رأسها في خجلٍ وأمسكت بيدي وبصوتٍ هامس قالت : هيا بنا إلى عربتنا الأولى ، مضيت بجوارها دون أن أنطق بكلمة .

توقف القطار فتدافع الناس ودفعني أحدهم فسقطت أسفل قدميها فأمسكت بيدي وساعدتني على النهوض فشعرت بقوتها وقلت لنفسي : إن كانت عيني أخطأت فكيف تُخطئ حواسي ، شكرتها فابتسمت وقالت : عليك أن تنتبه لنفسك فالطريق ما زال طويلاً ، وقبل أن تنهي كلامها اقترب منها أحد الشباب وأعطاها لفافة فشكرته فأحنى رأسه وقبّل يدها فابتسمت وقالت : تلك هديتك التي وعدتك بها فيمكنك الآن الرحيل إن أردت وإن أكملت معي إلى العربة الأولى سيكون هذا فضلاً عظيمًا منك .

قلت بلهفة وأنا أنظر إلى عيون الناس التي تملأها السعادة : نعم سأكمل معك ، فانتصب عودها وتدفقت الدماء في عروقها واحمرّ وجهها وارتسمت الابتسامة في عينيها فزادت من الجمال جمالاً وقالت : دون أن تعرف ما سأعطيك . فقلت بحزمٍ : أنا لا أنتظر ثمنًا لما أقدمه .

نظرت نحوي في هدوء ممزوج بشئ من الفخر وقالت : لقد اختارك القدر لكي تتحمل الجزء الأكبر من رحلتي .

تطلعت إليها في تعجب ودهشة قبل أن تواصل وتقول : وإن قلبك الطاهر وشهامتك واعتزازك بنفسك جعلوك من الكبار وإن لم تكن منهم لكني أتوقع أنك ستكون منهم .

التزمت الصمت لحظة وأنا أنظر إلى عينيها ثم استحضرت أخر ما تبقى من دبلوماسية لدي وقلت : هيا نحاول ,

وفي تلك اللحظة ارتسمت ابتسامة جميلة على شفتيها ثم قالت : المحاولة بداية لكل مجد .

ضحكت وقلت بسخرية : أتمنى أن يحدث ذلك لكن التجربة يا سيدتي علمتني أن وراء كل لعنة محاولة فاشلة .

قالت : إذًا أخلع عنك ذلك القميص الممزق وارتدي قميصًا جديدًا .

ضحكت وقلت : هنا في عربة القطار ووسط الناس .

قالت : أنت بين إخوتك .

مضيت معها نحو العربة الأولى للقطار بعدما بدّلت قميصي فأفسح الناس الطريق لنا وأمطرونا بالابتسامات والتهليل حتى شعرت أنني أُزفُ لعروسي في حفل مميز لم يسبقني إليه أحد ، وأثناء ذلك اقتربت منها طفلة صغيرة وقالت : في كل صباح أرتب غرفتي حتى لا أرهق أمي لكنها لا تعطيني قطعة حلوة بل تحضنني وتبكي ، نهض شاب وقال : أنا فتى مطيع أنا رغم تجاوز عمري الثلاثون , هكذا تصفني جارتنا العجوز ودائمًا ما تداعبني وتقول : ستكون ملكة تلك التي تتزوجك فمن النادر أن تجد رجلاً يغسل ملابسه , ينظف غرفته ويعد الطعام لنفسه مثلك ، فأضحك وأرد عليها : عندما أجدها سأنقلب عليها لكني لم أجدها حتى الآن .

تقدم أخر وقال : أنا أزرع أرض أبي , أقوم بتنظيف الحظيرة التي تحولت إلى مملكة خاصة للحمار بعدما انفرد بالحظيرة بعد أن أفلس أبي وباع كل الماشية ، والجوع يطعنني بخنجر كلما تنفست ولا أدرى كيف سأزرع الأرض مرة أخرى .

تقدمت إمرأة عجوز وقالت : أنا تملكني حالة خوف شديدة سيطرت عليّ منذ أن تزوجت ابنتى وأصبحت أخاف أن أنام بالنهار فيأتى أحد الدائنين ويطرق بابى فلا يجد مَن يعطيه أو يشكو له أو يبكي أمامه فيفضحنى وفى الليل أخاف أن أنام وأنا حزين فيصيبني مكروه .

أشارت إلى أحد الشباب فنهض فجلست مكانه ومضت تنظر إلى سقف العربة في محاولة للتخلص من حالة الحزن والغضب التي امتلكتها ثم قالت : سيكون أمركم أول شئ أتحدث فيه مع الكبار .

نهضت فأكملنا حتى وصلنا إلى العربة الأولى فاستقبلنا رجل طويل ووسيم لكنه مُهيب ، أفسح لها الطريق فدخلت بينما منعني ذلك الرجل من المرور فأشارت له أن يتركني ، فأخذ القمصان مني ثم تركني فدخلت وأسرعت بالوقوف بجوارها وفجأة خيم الصمت على تلك العربة الفاخرة التي احتشد في داخلها وجهاء وكبار المدينة .

علت أصوات مَن في العربات الخلفية فطل ذلك الرجل الطويل برأسه نحوهم وبصوت حازم صاح فيهم فطأطأوا الرؤوس فأمرهم بالصمت فصمتوا ثم أمرهم بترك مقاعدهم والجلوس على الأرض فجلسوا القرفصاء دون أن يعترض منهم أحد .

ثم عاد وأغلق الباب فنهض كبار المدينة وأحاطوا بها فظننت أنهم سيرحبوا بها لكني فوجئت بهم يمسكون بها ويجلسوها على الأرض ثم اقترب منها ذلك الرجل الطويل ومزق ثوبها فصرخت تستغيث بي فأسرعوا ووقفوا أمامي كالحائط فصرخت فدخل أحد الحرس فأمروه أن يمسك بي فصاح وأحضر عددًا كبيرًا من الحرس فأحاطوا بي بينما مضى ذلك الطويل في اغتصابها فدفعت الحرس لأنقذها فهمس لي كبير الحرس : دعه فهو لن يستطع أن يكمل ، فقلت : كيف وهو كالوحش ؟ فقال : لقد وضعت له السم في كوب الشاي منذ قليل ، مضت تقاوم وهي تستغيث بمن في العربة لكنهم كانوا يضحكون وفجأة سقط ذلك الرجل الطويل فتزايدت ضحكاتهم وتكالبت عليها عيونهم حتى شعرت أنهم يرون في اغتصابها لذة .

وفجأة رنت ضحكة ساخرة فى أرجاء العربة فتقدم صاحبها وانقض عليها كالذئب فأخرج أحدهم مسدسًا وقتله وهو يصيح : مجنون هذا العبد يريد أن يأخذها مني ثم انقض عليها هو ، فأمسك به أحدهم وأخرجه خارج العربة وأمره بالصمت والجلوس مثل الباقين فصمت وجلس القرفصاء ونكث رأسه معلنًا ميلاد مغتصب جديد .

صرخت تستغيث بالناس فوضع الجميع أيديهم على آذانهم هربًا من صوتها فتقدم أخر وأراد أن يغتصبها فأسرع كبير الحرس وقبض عليه فظهر خلفه أخر ركاب العربة الأولى وأمسك بيدها وقبلها فأسرعت وألبستها قميصي , فقال آخرهم : إنهم ظالمين كيف يفعلون كل هذا فيكِ ؟! اطمأن قلبي بشهامة آخرهم فخرجت وأعلنت للركاب نهاية من أرادوا بها سوءًا فهلل الناس وغنوا ورقصوا ، فاصطف الحرس أمام باب العربة الأولى فخرج من أنقذها فحملوه على الأعناق فشكرهم وعاد إلى مقعده في العربة الأولى فاقتربت منه وقلت : خدعتهم فشكروك ولكنى لم أُخدع , فابتسم في وجهي ثم نظر نحوي وأطال وبعدها قال : لسنا كلنا أشرار , فينا من هو سئ فقط وفينا من هو يعرف الخير .

قلت : لكنى لا أرى فى كلامك أو عينيك أي إشارات تدل على الخير بل أرى إشارات تنذر بشر كبير قادم .

ابتسم ابتسامة صفراء وقال : لقد أخطأت النظر .

قلت : بل أصبت .

قال : نحن فى طريق واحد .

قلت : لكنى لست مثلك .

قال : ستصبح مثلي .

قلت : ليس الأمر بتلك السهولة التي تظنها .

ضحك وقال : عندما تكون فى المقدمة تستطيع أن تحصل على ماء نظيف تغسل به عينيك من غبار الشارع فترى الحقيقة فتعيد حساباتك وقتها ولا تستطيع أن تتحمل السعادة التى ستسعى إليك , انضم إلينا وكن من الكبار .

قلت : لن يحدث لأنى وببساطة لم أجد فيكم من يملك قراره أو حتى يتمتع بشئ من الكرامة كلكم تسيطر عليكم الرغبة

قال : أنا اخترت أن أكون مع الأقوياء وأنت اخترت الضعفاء ولذلك انتهى دورك , و بصوت هامس قال : لا يصح أن تجلس معنا هيا اذهب وابحث لك عن شئ تغطي به جسدك العاري .

خرجت وقبل أن يغلق الحرس باب العربة الأولى رأيته يقترب منها ويقيدها بالحديد فصرخت فصرخنا , فأمر كبير الحرس بفصل العربة عن باقي القطار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق