الثقافةعالم القصه

فكري داود

حيثيات واقعة بعد منتصف الليل

هاجمت صفارات الإنذار القرية، التي تغط في سبات عميق، هبَّ الناس أنصاف نائمين، يتكفأون في ملابس نومهم، التي تجود بأغلب أجسادهم على الناظرين.
وسماع الصفارات في قريتنا، لا يحمل إلاَّ معنى واحدا؛ وهذا المعنى الواحد، قادم هذه المرة من خارج القرية، من الحقول، وبالتحديد من قلب حقول الأذرة، التي طلبت الحصاد، مثلما تطلب البنت الناهد الزواج، دون أن تنبس ببنت شفة.
أمواج بشرية متلاطمة، اتخذت من الحقول شاطئاً تتكسر عليه، وسحابة دخان تملأ الأفق ظلاما، إلى كبد السماء تتنامى صاعدة، تشوش على عيني القمر، أصلها في الأرض، كشجرة جذعها تنين أسطوري أسود، من أسفله يهب اللهب فيطل فوق شواشي الأعواد، ثم يخبو، ويعود ليطل ثانية، ثم يخبو، فيجعل الكون كمصباح يوقد، ثم يُطفأ، ثم يوقد، في تتابع غريب.
وتولَّد حوار عشوائي، مجهول الأطراف.
ـ تُرى أرض من تكون؟؟
ـ يبدو أنها أرض فؤاد الأكتع.
ـ على الله يا أخي ويكون فيها، وترتاح الناس من سلبه ونهبه.
ـ أبداً أبداً، أرض فؤاد محصودة من يومين، يمكن تكون أرض عبده أبو حسين.
ـ لا قدَّر الله يا شيخ.
عبده أبو حسين لديه (كوم لحم) من الصغار.
ـ انطلقت صرخة نسائية منزعجة:
يا خراب بيتك يا عمك عبده… والنبي ديونك مالها حد.
– قاطعها أحدهم.
لا حول ولا قوة إلا بالله، يا ولية أنت حقك تزغردي، يجوز جداً يكون بتروم.
– رد آخر ساخراً : بتروم؟!.
اسمه بترول يا محترم، بترول، باللام… آل بترم آل!!
ـ وانت مالك، أنا على كيفي… بتروم … بترول… أنا حر.
خلاص، انت حر!!
– قاطعهما أحد الحاضرين:
بترول؟!
يا حظك يا أبو حسين! زغردوا يا بنات..
وما كادت تزغرد إحداهن، حتى سرت العدوى بين الأخريات، كما تسرى النار في الهشيم..
ولكن سرعان خفتت الزغاريد، عندما هجمت (سراين) عربات المطافئ تزلزل القلوب، والغريب أن سحابة الدخان، وكأنها أدركت قدوم العربات، بدأت في التقلص والانحسار، وبدأت عيون القمر تتسلل عبر الدخان، فتلقي بضوئها فوق كواهل النسوة وأذرعهن شبه العارية، منبهة صاحباتها اللائي استدرن منسحبات، عاقدات أيديهن فوق صدورهن.
كانت رائحة الأذرة المحترقة تهاجم الأنوف، كلما تقدم رجال المطافئ، بخوذاتهم اللامعة، وثيابهم الجلدية، وأعوادهم الفارهة، متشبثين بخراطيم المياه، تنقش أحذيتهم وجه الأرض اللينة، يتقهقر الظلام أمام كشافات النور المعلقة في رقابهم وبأيديهم، رهم يجدَّون السير، لينتزعوا السّبيل إلى بؤرة
شجرة الدخان الثعبانية بجزعها الملتهب، والذي استمر الشحوب والهزال يسيطران عليه بشكل سريع.
وما إن اقتربوا، حتى أبصروا دائرة محصودة الأعواد وسط الأرض، فبدَتْ كرأس استبد القراع به، وفي وسط الدائرة المحصودة حفرة كبيرة، مملوءة بأعود الأذرة المتَقدة، وبالأرض اللينة من حول الحفرة، وبالقرب منها، انتشرت بقايا ثمار الأذرة المشوية، وآثار أقدام صبيانية هاربة داخل الأعواد المصفوفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق