شعر فصحى
الشاعرة وفاء المصري
هلْ وجَدَ أحدُكم فمِي ؟
_________________
“الناسُ لسوءِ الحظِّ واقعيونَ جدا.. وأنا لسوءِ الحظِّ وفاء المصري”
..
فمِي المُكَمَّم
فَمِي المختومُ بالرَّصاص،
فمي المقفولُ بالشمعِ الأحمرِ على أغنياتِه المحتضرة
فمي الذي أحمله في وجهي
وأمشي به في الشوارع
كما لو كنت أحملُ فضيحة،
فمي الذي كان سببَ كلِّ تعاساتي
التي اخترتُها بمحضِ إرادتي :
ضاعَ منِّي
*
مثل وصمةِ عار
كنتُ أخلعُه من وجهي كلَّ صباح
وأنا على عتبةِ بيتي
قبل أن أخرجَ إلى العمل،
ثم أعيدُ لصقَه بعد عودتي
قبل أن أدلِفَ من الباب.
*
هكذا
، وكأيِّ مواطنٍ صالح،
أرحتُ واسترحت.
أظنني أرحتُ أيضا الملاكيْن المعذَّبيْن بطولِ عمري
فوق عظام كتفَيَّ الهشة،
ربما أرحتُ اللهَ نفسَه
من رجاءاتي الملحَّةِ بحياةٍ
، فقط،
لا تُخجِلُ أرواحَنا.
أنا حتى لم أعد أسأله لماذا خلَق لي فمًا
كنت أتصورُ أنه خلقَه للصراخ
كنتيجةٍ منطقية
لكل الجرائمِ التي يرتكبها العالمُ على عيْنِه
ولا يجِدُ لها أيَّةَ حلولٍ عندَه
*
هذا المساء
وأنا أدسُّ يدِي في جيبي
وجدتُه مفتوقًا عن آخره
أيَّةُ كارثة !
فمي ضاع
*
بمَ سأتكلمُ كل يومٍ مع جدراني
التي لا تعارضُني أبدا ؟
بمَ سأهذي دائما بقصائدَ
لا يسمعُها أحد ؟
فيمَ سأتلقَّى أمطارَ دمعي على وسادتي كل ليْلة
بينما أولادي يتضورون جوعًا أمام التلفاز
ثم يكْمِلون عشاءهم نومًا ؟
يا له من كابوسٍ فظيع !
*
هرعتُ أسألُ الناسَ في الشوارع
وأنا أشيرُ بسبابتي كخرساءَ إلى موضع فمي :
“من فضْلِكم .. هل وجدَ أحدُكم فمي ؟”
كان سؤالي العبثيُّ يدفعني إلى الرغبةِ في البكاء
وأنا أستوقفهم في عرضِ الطريق :
فمي يا أخي
فمي يا أختي
فمي يا ..
اعتقدوا جميعا أنني مخبولة
وتركوني ومضوا
*
أخيرا عثرتُ عليه مرميا
على رصيفِ شارعٍ جانبيّ
مثل فردةِ حذاءٍ صغيرة
لا تصلحُ حتى لإيواءِ قطةٍ بردانة
*
لأول وهلة ارتبْتُ بأنه فمي
لكنني عرَفتُه من وجع وجودي الذي يصبُغ شفتَيَّ
وبينما أمدُّ يدي اللهفانةَ لأنفضَ عنه التراب
إذا بنبتةٍ نحيلة
وقد نشِبَت بجذورِها في لحمه
*
على أحجارِ الرصيفِ المطليةِ بألوان البيانو
جلستُ بجوارِ فمي
أرقبُ النبتةَ الرقيقةَ بابتسامةٍ مشفِقة
وأسقيها من تُرمُس الماءِ الصغيرِ الذي أحملُه بحقيبتي
*
لم يكن باستطاعتي
سوى أن أتركَ لها أَصيصَها الصغيرَ وأمضي
وكان جميلًا حد البكاءِ وأنا التفِتُ خلفي
منظرُ العصفورِ الرماديِّ الذي هبطَ يزقزقُ على حرفِه
وهو يميل بمنقارهِ ويشرب .
*
وراءَ نظرةِ وداعٍ خلف ضبابِ دموعي
كان يخامرُني شعورٌ بالغبطة
من أن فمي
، أخيرا،
أصبحَ له فائدةٌ حقيقية