الثقافةشعر فصحى

عاطف عبد العزيز

مصر

دفاتر البهجة

(الممرُّ)،
كان اسم الفندقِ الذي وضعوهُ على
أطرافِ المدينةِ الباردة.
نوافذُهُ في الّليلِ، كانت تبينُ لنا من بعيدٍ،
كثقوبٍ في خيمةٍ،
نُحدَّقُ فيها؛
فيملكُنا الشُّرود.

لا أحدَ يعرفُ على وجهِ اليقينِ لماذا
أسموهُ كذلك،
كانوا ربما يعرفونَ مصيرَهُ،
يعرفونَ أنه لن يكونَ ذاتَ يومٍ محلاً للإقامةِ،
بل بوَّابةً،
محضَ بوابةٍ يمرُّ منها النَّاسُ إلى الجَنَّةِ،
أو يمرُّونَ إلى النِّسيان.

هناك،
في غرفةٍ واطئةٍ كانت تبِصُّ نحوَ ربوةٍ
من الصُّخورِ والعُشْبِ،
طلبَ ولدٌ ناحلٌ من فتاتِه أن تخفِّفَ
الإضاءةَ،
وأن تخرجَ من ترسانةٍ وقفتْ تُطلُّ عليهِ
من ورائِها:
قميصٌ خلفَ القميصِ،
بنطالٌ تحتَ بنطال.
لكن البنتَ الرِّيفيَّةَ تذكَّرتْ أباها الكاهنَ فجأةً،
فارتعشتْ لها شَفَةٌ،
وبردَتْ كفُّها في كفِّه.
تذكَّرتْ أباها،
فتراءتْ لها سبَّابتُه القصيرةُ وهو يحذِّرُها
من الغرباءِ
الذين إذا دخلوا قريةً أفسدوها.
لا أحدَ يعرفُ،
كيف خطرَ للبنتِ أن تسألَ صاحبَها
عن الربِّ،
ولماذا هو منشغلٌ إلى هذا الحدِّ بالتَّلصُّصِ
على أبنائِه.
غير أن الفتى في لحظةٍ كتلك، كانت تعوزُه
الإجابةُ،
فآثرَ أن يتابعَ بعينيهِ سحابةً دكناءَ كانت
تمرُّ قُبالةَ النَّافذة.

على الأرجح،
كانت الصَّبِيَّةُ مأخوذةً بالهِبَةِ التي سقطتْ كتُفَّاحةٍ
في حِجْرِها،
الهبةِ التي انتظرتْها عاميْنِ كاملين،
ونذرتْ من أجلِها، كلَّ ما تملكُ من شهوةٍ
في الأعطاف.
كانتِ تدركُ بغريزتِها،
أن الغُرَفَ النَّائيةَ لا تُكرِّرُ نفسَها أبدًا،
وتلك هِيَ المُصيبةُ،
تُدركُ كم أنها كائناتٌ نافدةُ الصَّبرِ،
ولا وقتَ لديها،
كي تُعلِّمَ الحمقى فنَّ الحياة،
وأن طابورًا طويلاً من العاشقِينَ يقفُ
منذ الأزلِ على بابِها،
لا لشيءٍ، إلا لكي يضمنَ واحدُهم مكانًا لاسمِهِ
في دفترِها الصَّغير،
بعدَها، سيكونُ له أن يموتَ هادئًا،
قريرَ العين.

كانتِ تُدركُ، ويُدركُ،
فما الذي فعلهُ العاشقانِ بما أدركاهُ؟!
ما الذي فعلاهُ بالمَمَرِّ الذي امتثلَ لشِقوتِهما،
وانفرجتْ لهما أقواسُهُ،
كي يقولا كلَّ الذي لم يعنياهُ أبدًا،
ويهدرا المساءَ البعيدَ بطولهِ
في مديحِ الطقسِ،
بينما الأعصابُ موصولةٌ بحفيفِ أقدامٍ
تمشي خارجَ الغُرَف؟!
كي يقولا كلَّ الذي لم يعنياهُ، بينما
الأعضاءُ تنأى بعيدًا،
وتخبُّ في الشَّتاتِ؟!
ماذا فعلا غير انخراطِهما
في تتبُّعِ خيالاتٍ صنعتها العتمةُ،
وخوفِهما من الرَّحمةِ،
تلك التي كانت تنزلُ من السَّماءِ أحيانًا،
فتملأُ الغُرَفَ النَّائيةَ،
وتعلَقُ بالهدوم؟!

بعيدةٌ هي الآن،
البنتُ بعيدةٌ،
لا شأنَ لها بأحوالِ العاشقِ المهجور،
ولديها برنامجٌ علاجيٌّ كثيفٌ يحجزُها عن النَّاسِ،
في مصحَّةٍ تتنفَّسُ
على أطرافِ مدينةٍ باردة،
تبينُ نوافذُها في الليلِ من بعيدٍ كثقوبٍ
في خيمة.

ستقولُ في رسالةٍ:
«أعرفُ أن الوقتَ فاتَ، لكني راغبةٌ
في الكلامْ،
الغُوايةُ يا عاطف،
كائنٌ مغلوبٌ على أمرِه.
الغُوايةُ التي طالما أكَّدْتُ لنفسي أمامَ المرايا،
أنني أمقتُها،
والتي كنتُ أُصلِّي بمُهَجةٍ منقسمةٍ،
من أجلِ أن يرفعَها اللهُ عنِّي،
لم تكن سوى صديقي الطيِّب
الذي دأبَ على منحي التَّذكاراتِ،
تلوَ التَّذكارتِ».

سيكتبُ الولدُ إليها:
« لا تنسي .. الغوايةُ أيضًا،
هيَ ذاك الاسمُ الحَرَكِيُّ الذي اخترناهُ
في صمتٍ للسَّعادة»
**
شهرانِ طويلانِ،
قبلَ أن تصلَ برقيتُها الأخيرةُ،
تلك التي لم يعد يذكرُ الآنَ منها سوى
أن صوتَ حبيبتِهِ على الوَرَقِ،
كان باسمًا وضعيفًا،
..
كان أقربَ ما يكونُ إلى خرفشةِ فَراشةٍ
محبوسةٍ في دُرْج.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق