قراءة اُنطباعية حول قصيدة ” غرفة تُقبّلُ كفَّ أمّي ” للشاعر عدنان شيخموس
بقلم الشاعرة نزهة تمار
قراءة خاصة ممنهجة تخص القصيدة النّثرية تحت عنوان ” غرفة تقبّل كفّ أمّي ” ضمن توافق موضوعي مع الشاعر القدير عدنان شيخموس للصّور البلاغية المثيرة في النص ، ووفق سياق هادف شمولي انطباعي .
قصيدة نثرية بإيقاع لغوي ماتع وبأبجدية عالية متّزنة متّصلة متمركزة بخصوبة موضوعية ، فعنفوان مشاعر الشاعروارفة بروح اُبداعية وبفكر يمركز الحدث ويحيطه بشاعرية واقعية خيالية تصعب على القارئ تفكيكها إلاّ بقراءات متعددة تجعله يندمج ضمن تأويلها لخاصيته .
كمتتبعة لنصوص الشاعر أحسّها متفردة بطابع إنساني وجودي سريالي خصوصاً وأن عدنان شيخموس هومن أصل كردي سوري ولنا دراية أن الشعب الكردي رغم اُستلابه لحقوقه المشروعة فهو شعب ثائر متمرد يرسم لنا صورة الدّهشة العميقة من منبع الرّوح المبدعة المتمكنة ، وشاعرنا يمتلك هذه الخاصية بمواقفه السياسية والإنسانية تحوّله إلى مبدع يسامر الحدث بطريقته وإيصالها للقارئ .
هذا النص النثري ” غرفة تقبّل كفّ أمّي ”
فيه يضعنا الشاعر أمام دهشة المتلقي رغم تموْقع الوجع ، حيث أعطى إيجابيات للحصاد ودلالة السنبلة في نصّه هي اُمتداد إلى لا نهاية في أصول البداية .
نعم الشاعر هنا يرقص فوق النار بأغنية من ماء ..
وهو يقول :
لم تستسلمْ سنبلةٌ رضَعتْها دموعُ أمي في خمسِ أغنياتٍ مالحةٍ لزمنٍ مائلٍ
لم تنكسرْ أحلامُها في قسوةِ ليالي الحصادِ
لم تَطُفْ حولَ شجرةِ التوتِ
لمْ تسرحْ جدائلُ العنبِ الأسودِ في الأعيادِ
لم تنَمْ على سريرٍ فقدَ نشيدَهُ وانصهرَ مع معطفٍ رماديٍّ في قارةٍ مجهولةٍ .
تَحطُّ مشاعر قويّة فوق مشاعرنا تُذيب الأنفاس حيث يحضر إحساس الأم لحظة الفراق .
اُلْتحام الألم وإعصاره بموّال يحلّق ويبتعد بأحلام وطموحات تختزلها لغة شفّافة من محطّات وجداول واُنصهار ونشيد وحريّة ، الفراق والإبتعاد هزّ كيان الأنفاس ، اُرتعشت المواجع عبّرَ عنها الشاعر بإيقاع سلس فني اُستحضرته موسيقى سطوره النثرية الأخاذة .
يقول الشاعر :
غرفةٌ يهتزُّ ظلُّها فترتعشُ السماءُ دونَ نجومٍ
وعنقُ الطريقِ يقبّلُ كفَّ أساورِ اللّقاءِ ..
هنا الغرفة عزفت في صمت ، علَّ الطريق الوعرة ترحم أنين المواجع ، وحضور الرّحيم في النّص يجعلنا ندرك العلاقة التي تجمع بين ابداع الشاعر وألمه كمعتقل سياسي اغترب عن الغرفة وحضن أمّه ، حدَث حوّل دمعة الأم إلى أنشودة بليغة المدى كلّها انتظار وتأمل ووقفة أمل بصوت رخيم لحضن اللّقاء وكسرأساور السجن .
نلاحظ أنّ خطوات الرحيم الخفيّة بدورها تحيطه وترافقه بالعزيمة والإنتصارلغناء الحريّة والمدد رغم الوجع ورغم المسافة .
في نصّ الشاعر عزفت الكوفية أيضا بموسيقى الحدث ، فحضور كوفية الأم في القصيدة تجعلنا ندخل أغوار فلك كوفية تحوم حوله اَيات من نور محمولة بالدّعاء تفرِج عن وخزة اُنتظار وهَمّ النورس المظلوم للقاء محتوم .
هكذا هوعدنان شيخموس أمام سرداب الوجع يعلّق فانوس مسبحة من الفضة كأنه ديجور أمل كلّه تحدّي وصمود بميزة التّفرد ذات جماليات مستوحات من عمق الطبيعة ومن عمق الإنسانية ، رسم لنا جوهر حُمولي نادر جدّاً وذلك في لغة دقيقة برمزية ماتعة مرفوقة بأشعّة من نور كتوظيف المسْبَحة وتوظيف الكوفية إلى غيرها من التوظيفات الماتعة الأخرى في النص.
هذه التوظيفات تغمر روح النص وتناشده بأبجدية فائقة المعنى وبحضور يصارع الغبار ويصارع الجهل.
فاُبتسامة الرّحيم تُعانق سطور الشاعر بل تضيء عمقها من فواصل الوجع وضغينة الإغتراب في السجن والكوفية رمز التحدّي تظلّل الأنفاس خصوصا أنفاس الأم بالأمل ليهدأ الغضب ونار القهر .
ماتعة ومزهرة عطاءات هذه القصيدة النثرية بكلّ أبراجها اللغوية التوصيفية داخل منهجية سطور محكمة بصور بلاغية فذة .
فالشاعر يضعنا لنقف بدهشة مرة أخرى حيث يقول :
أجنحةٌ تتشابهُ كثيراً
ضيوفُها يحلّقونَ في لحنٍ محظورٍ،
حينَ يدورُ حوارٌ بينَ السّجينِ والسّجّانِ يُغمى عليهِ المنظورُ
ويسقطُ المحظورُ في لغةِ الكلامِ.
فالحظر هنا قطيعة اُفتعلها الإستبداد والتّسلط لمصلحة السّجان ضمن زمن معيّن للسّجين ، القمع كما نعلم ومع كل الأزمنة يسلب الأجنحة تحليقها بحرية مفقودة .
هذه الدراما الممتدة ، أو هذا الوعي بدراما شعرية يخزنه العقل الباطني ثم يدونه الفكر الإنساني عبر محطّات زمنية معاشة .
الشاعر يفتح مجال للأصوات التي تتجاوب مع فكره وروحه نجدها في خبايا سطوره ، اُستجلائه لذاته ولموقفه مع قضايا وظواهر معنوية شاملة تتطور عبر مراحل نفسية فكرية واُجتماعية في الماضي والحاضر وتوقعات لها للمستقبل .
نعم لغة الشاعر لغة هادفة ومتميزة سواء وهي تندّد وتحكي عن الحدث ضمن معانته، أو هو سرد لغوي وفق محيط من معاناة في زمن أرهقته سطوة الظلم واُستعمرته حقارة الإستبداد .
فتحايا خاصة لكلّ سطر لكلّ فكرة لمسنا عمقها الموضوعي الإبداعي من خلال قصيدتك النثرية المميزة ” غرفة تقبّل كفّ أمّي ” الشاعر المبدع عدنان شيخموس .
تحية مودة مرفوقة بالأمل والمحبّة لإبداعكم ..
_________________
” غرفةٌ تقبّلُ كفَّ أمّي ”
لم تستسلمْ سنبلةٌ رضَعتْها دموعُ أمي في خمسِ أغنياتٍ مالحةٍ لزمنٍ مائلٍ
لم تنكسرْ أحلامُها في قسوةِ ليالي الحصادِ
لم تَطُفْ حولَ شجرةِ التوتِ
لمْ تسرحْ جدائلُ العنبِ الأسودِ في الأعيادِ
لم تنَمْ على سريرٍ فقدَ نشيدَهُ وانصهرَ مع معطفٍ رماديٍّ في قارةٍ مجهولةٍ
بقيتْ الغرفةُ طينيةٌ تغنّي للبابونجِ وأسرابِ الحجلِ .
غرفةٌ تحرسُها محطاتُ دمعٍ، من كلِّ جهاتِها قوافلُ أسماءٍ بلا كفنٍ
غرفةٌ يهتزُّ ظلُّها فترتعشُ السماءُ دونَ نجومٍ
وعنقُ الطريقِ يقبّلُ كفَّ أساورِ اللّقاءِ ..
كلُّ المرافئِ تحتضرُ تحتَ مخدّة ِأمي لتكونَ فانوسَ مسبحةٍ تضيءُ الفضّةَ
وقفةُ أملٍ بصوتِها الرّخيمِ ..
حولَ كوفيةِ أمي تحومُ آياتٌ وتراتيلٌ، تأبى النومَ قبلَ غروبِ العمرِ
مطرّزةٌ بأبجديةٍ تصارعُ الغبارَ.
أجنحةٌ تتشابهُ كثيراً
ضيوفُها يحلّقونَ في لحنٍ محظورٍ،
حينَ يدورُ حوارٌ بينَ السّجينِ والسّجّانِ يُغمى عليهِ المنظورُ
ويسقطُ المحظورُ في لغةِ الكلامِ.
تختفي فخامةُ نجمٍ عالٍ
يتعرّى في كوكبٍ مجهولٍ
هيبةٌ تسقطُ في وحلِ صغائر لا معطفٌ يكتسيها ولا سقفٌ يدلفُ عزفَ فجر ٍ.
وحدَها غرفةُ الرّحيمِ تبتسمُ للطّينِ والغرباءِ
تضيءُ في المساءِ صدر َمكانٍ ،لاعرشَ لأحجيةٍ بينَ مواويلٍ ثكلى
مازالَ السّفحُ يغنّي سمفونيةَ وترٍ بلا قيودٍ
رحيمٌ شامخٌ
رحيمٌ لا يذرفُ دموعاً على سفينةٍ غرقتْ في جبلٍ مجهولٍ.