الثقافةشعر فصحى

د محمد زيدان (مصر )–الشاعرة ناهد الشمري (العراق)

دراسة في ديوان سماء لا تنكر الا زرقتها

تجليات البوح
قراءة الدلالة في ديوان “سماءٌ لا تنكر زُرقتها”
للشاعرة العراقية/ ناهد الشمري
د. محمد زيدان

الشاعر عندما تتفتح روحه على آفاق لا محدودة من المعاني، ويضيق الجسد عن حملها لا يجد إلا أن يتجلى في الآخر، فيما وراء المعنى، في مفردات الحياة، في الوجود، الإنسان في الطبيعة، لأنه بذلك لا يخاطب هذه الأشياء مباشرة، وإنما يخاطب فيها ذاته، تلك التي يتلمس فيها ذاته، وهنا تصبح هذه المفردات، يصبح هذا الوجود مثل المرآة التي يرى الشاعر فيها ذاته، ويرى ما خلفه، وما أمامه، يصبح الوجود صورة فائقة للذات، فالذات تتجلى، والوجود يتجلى، وتصبح الراوية هي حلقة الوصل بينها وبين الوجود، وبين الكينونة التي تحملها، ولذلك نجد العتبات النصية عند الشاعرة ناهد الشمري، تنمو إلى فكرة التجليات، فهي مفردات تمثل جزءًا من الفكرة الصوفية، فنرى:
أرض- نخلة- تاء التأنيث- صمت- حلم- ثمرة قدس- وردة- لوحة- مومياء- سماء تفقد عذريتها- وطن …
والقصائد قصيرة، وبرغم أن فكرة التجليات تنتمي إلى سياق التصوف، إلا أن الدلالات ليست دلالات تصوف، وإنما تأخذ من السياق أدواته، ومن الفكرة صورتها، لتضع اللغة والمعنى في موضع التماهي بين وجود متحقق، ووجود حلمي، ترى فيه من خلالها أيقونات خمسة:
– الواقع؛ بما فيه من وعورة، وعذوبة.
– الذات؛ بما فيها من غموض، وبساطة.
– الوجود؛ بما فيه من مترادفات، ومتناقضات.
– الحلم؛ بما فيه من أرواح متناقضة، ومنسجمة.
– الآخر؛ بما فيه من غدر، ووفاء.
هذه الأيقونات تمثل حالة سردية عند ناهد الشمري، تبدأ بالبحث في الواقع عن ذاتها، وباختراق الوجود وصولا إلى الحلم، وبتجاوز الآخر وصولا إلى الوجود، ربما تتحول القصيدة إلى صورة وادعة لذاتها، تنساب في إيقاع هامس رغم أنها تنتمي إلى قصيدة النثر، إلا أن إيقاع هذه الأيقونات قد يتفوق في كثير من المواقف على أيقونات الإيقاع المنتظم، وتتماوج أشكال الإيقاع لتبدأ في “لوحة”:
ساعة أو يزيد
أتقلّب داخل روحي
أحثّ رؤاي لساحات يغسلها ……
ينزّ من شقوقها اخضرارا
ها هي أيامي
أرض كور بابل
النواويس
ثمة أنوار في الخيمة
تصطكّ الأفكار هناك
والشرّ
ذلك النجم الأسود
أحكم ثقله فوق صدر السماء
فأمطرت حزنًا من عيني
أغمضتُ روحي لأسترق النّظر
تطايرت رؤوس النجوم
قلوبٌ تجري حافية إلا من رعب
تستنشق كل مخاوف الأرض
عيون تحتضن أجسادًا مسرعة نحو الذبح

تبدأ الشاعرة رحلة التجليات في النّص موزّعة بين:
• روحها التي تتقلّب.
• الوطن الذي يسكن هذه الروح.
• رحلة الأفكار في التجليات.
• السماء والأرض.
• القلوب التي تستنشق مخاوف الأرض.

أرى في النص رحلة العراق، رحلة روح العراة، الوطن الذي يسكن في كل النصوص التي تقف على حافتين:
– حافة روح الشاعرة
– حافة الوطن
والوطن يمثل الوجود، والسياق يتحول من مجرد خلفية للمسرود له وعنه، إلى أداة من أدوات السرد الشعري الذي يحفظ دم الجسد الإنساني، في مقابل أن يحفظ دم الوطن الذي يمثل بلاغة المأساة؛ وكأنه رأي .. كأنه سمع ..
عنوان النص جزء لا يتجزأ منه، والمتن مرآة للعنوان، كما هو مرآة للجسد، والروح، والوطن.
رأيت
مركبًا يرافق الخطى إلى الغيوم
رؤوسًا على جانبيّ الحياة
كأنها طلع الملائكة
الوجود دائما عند ناهد الشمري يساوي الوطن، والوطن يساوي مفردات الوجود، المركب الذي يرافق الخطى إلى الغيوم، والرؤوس التي تسير على جانبيّ الحياة، برغم أن الراوية تكتب على سبيل المعنى المطلق/ المعنى العام، إلا أنها في الوقت ذاته تقدم التفصيلات الدقيقة داخل المعاني التي تمثل الصورة الكلية، والنصوص تصنع هذه الصورة في كل مفردات الدلالة.
يمكن القول إن الدلالة المركزية في الديوان تشبه التجليات بين الواقع والحلم، بين الوجود والعدم، وبين الجسد والروح، ومن هذه الدلالة المركزية تبدأ الذات في البحث عن الأيقونات سالفة الذكر، وأنا أقرأ الدلالة كأنني أسير بين النصوص، بين تجسيد المعاني والرؤى والأحلام، بين السياق العام والسياق الخاص الذي يحكم صورة الدلالة المركزية، والدلالات المصاحبة، في أي نص تجد التجليات ظاهرة، من العنوان، الروح الصوفية التي تتحد بالوجود، وكأننا داخل وحدة للوجود كما جاء عند ابن عربي.

النص والسياق:
في قصيدة انتهاء الفصول، تقول ناهد الشمري:
قبل أن تزل قدمي
وأسقط في هاوية الزمن
كنتُ ضوءًا
أتسلل بين الوحشة والوحشة
أسمح للسنوات بأن توصل لحظاتها
تزينها بربيع هنا وخريف هناك.
النص هو الدلالة، والسياق هو الذي ينتج هذه الدلالة، أم أن النص يتحول عند ناهد الشمري إلى سياق، والسياق يتحول إلى أداة رصد لواقع الذات، لواقع الروح، وها هي تعترف أنها كانت قبل أن تسكن في هاوية الزمن، ضوءًا تسلل بين الوحشة والوحشة…
المعاني المجردة التي تتخذها الشاعرة رمزا للحالة، وتتخذ الحالة رمزا للسياق المصاحب لها، فهي واعية بكل مفردات هذا السياق، وفي الوقت نفسه واعية بذاتها التي تتحد مع هذا الوجود، كل مفردات النصوص تصلح أن تكون رمزا وجوديا، وتصلح أن تكون سياقا خاصا داخل السياق العام/ التجليات.
لا يمكن وأنت تقرأ النصوص إلا أن تحس بذاتك تتجول بين السياقات المصاحبة للتجليات، والحالات التي تتحد بها، إن الأزمة الوجودية التي تحكم الوطن العربي/ العراق، جزء لا يتجزأ من واقع الروح، جزء لا يتجزأ من فكرة العودة إلى الذات، حتى يمكن العودة إلى الوطن، حتى يمكن الركون إلى كون الذات/ الشاعرة تتلاشى بين ذرات الوجود؛ لتصبح جزءًا منه، ثم تعود لتخلق نفسها مرة أخرى في صورة نجم، أو شمس، أو أرض، هكذا فهمت من سياقات الحالة الشعرية، سياقات الوجود الإنساني، وها هي الذات في محاولة عبورها إلى السكن:
أخيط أوجاعي قنطرة دخان
خطواتي ترسم على وجه
الخطيئات
مواعيد من عبروا
لم تصل أمانيهم جرف الضّجر
الضفادع
مازالت ترتكب فاحشة التغاضب
في معبد الماء
تغازل الحياة إذ لا حياة.
هذه هي سيرة الوطن الذي تحيطه عتمة النهار الذي صنعها واقع مرير، سيرة لذات الوطن، الذي تعلو فيه الضفادع، ويموت العشب، والفاحشة التي تطفو على معبد الماء، صورة للمهزومين الذين يصنعون الهزيمة بأنفسهم، الحياة فيه لا حياة، الوطن في النص موجود وغير موجود، لأنه يمثل حالة الجسد والروح، صورة الجسد لكن الروح هاربة، والروح هائمة بلا جسد.
هكذا تجسد الشاعرة ناهد الشمري الحالة السردية في تجربة الرمز فيها هو الغالب، والسياق الذي يحتوي هذا الرمز سياق وجودي، والمصاحبات التي تحيط به هي مفردات الواقع، ورموزه وأحلامه وأوهامه وانكساراته، تسطع النصوص بمفردات التجليات كأنها تتحد مع من يقرأ فيها ذاته، ويقرأ في الوقت نفسه ذات الوطن.

طنطا/ في 21/4/2019

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

إغلاق