زمن لم يكترث لأحد
في ديوان (ورود في فم الحرب)
للشاعرة مريم تمر
عبد المجيد محمد خلف
روائيّ وناقد سوريّ
لمسة تتقدّم إلى ذاتها، ليستيقظ الحبر لبروق الكلام، لامتداح القلق الذي يراود مخيلتها؛ فتنقل لنا كلّ ما تشعر به في هذا الوجود الذي نالت منه الحرب ذات مساء؛ لتدوّن في دفاتر الأيام رحلتها المضنية، وخوفها الدائم من وجع سيستمرّ طويلاً، ويملأ شقوق الذاكرة بقصصها التي لا تنتهي، لأنها أشغلت الجميع بها، وبنارها التي لن تخمد أبداً، انهيار يقود الأجساد إلى حتفها، ودائرة تشملهم؛ كلّهم، بحقدها الدفين، وورود تسعى إلى الفكاك من غضبها، هي (الأطفال- النساء- الشيوخ- البيوت- المدن- الأرض- الحب، الحدائق- المدارس- العشّاق)، كلهم كانوا وروداً في فم الحرب، و وروداً عانت من ويلاتها، وقضت أعمارها تحت أنقاضها.
فـ (الحبّ، الحرب التي أتت على كلّ شيء، التعلّق بالأمكنة وعشقها، الطفولة، الحنين إلى الماضي، الذكريات، محاولة النسيان)؛ بعض مما منحه الوقت لذاكرة حاولت أن تستحضرها الشاعرة في ديوانها الشعري الجديد (ورود من فم الحرب).
زمن يشهد صراعات حياتية؛ لا تنتهي، وأزمات نفسيّة تشكّل صورة لحقيقة تتوالى إشاراتها؛ لترسم بالكلمات مشاهد من واقعنا اليومي المعاش، ومجتمعاً نالت منه الأيام، فخلّف وراءه الكثير من الآلام والدموع؛ حقيقة تحاول التحرّر من كيد الصورة، وبرهان الشكل، لتنطلق نحو المكان؛ حيث الدائرة تمضي بسرعة عليها؛ نحو يقينها المطلق، بمعانيها ودلالاتها التي انطوت تحت (سبعة عشر نصاً)، يكمل كلّ واحد منهم الآخر، لتظهر في النهاية كقصيدة واحدة، وواضحة الملامح.
صورة ألم
وجع يمتد على صفحات العمر لطفل صغير بائس، أخذت منه الحرب كلّ شيء؛ غده، أحلامه، حبّه لحياة لم يرَ منها بعدُ شيئاً، ولم يجرّب طعمها، ببتر ذراعه، وتبقي له أخرى، ليحثّ الذاكرة كل يوم باحثاً عنها، ويشتكي لأمه حالته؛ بعدما دمر القصف البيت الذي يسكن فيه مع أهله، لتموت أحلامه، وطفولته، ويتحوّل كل ما في حياته إلى كابوس مرعب؛ بعدما توقف على مشاهد الدمار الذي أصاب البيت، ويتحدث بأحاديث الكبار عنها: “الطفل بيد واحدة، يستيقظ كل صباح، من كابوس قصف بيته، يتأمل أمه في الخيمة، تمسح بطرف شالها الأيمن، دمع عينها اليسرى، يقول بعجز رجل تسعيني: أمي.. الحرب قصمت ظهري”.
تجلّيات الأمل
يحاول الإنسان التخلّص من الألم بالنسيان، بالبحث عما هو أفضل، وعن واقع جديد يسعى في إلى العيش بأمن وسلام تحت سماء وطن يستظلّ الجميع بظلّه، ليعود كما كان قلب الجميع، وحبّهم الذي كان، وفي سبيل خلق هذا العالم الجميل الذي لابد أن يكون، وتلك السعادة التي يسعى لخلقها، تحاول الشاعرة أن تنقل لنا صورة جميلة لما بعد الحرب، حيث يرحل الموت الذي كان ينشر أجنحته فوق المكان كلّه، فالصراع والتمزّق لن يكونا نهاية الحياة، لأن هناك فجراً ينتظره الناس كلّهم، هو فجر الخلاص، والسعادة والحبّ، ومهما طال أمد الحرب فلابد أنها ستترك هذه البلاد، وتمضي إلى غير عودة: “عنوة ستترك الحرب البلاد، البيوت ستعرف ساكنيها القدامى، ويولد أطفال، لم يسمعوا صوت قذيفة، تحكي الجدات حكايا الزيتون، وسيرة الجدائل، وجع أطفال لم يبتسموا، أطفال كانت الخيام ملاذهم الأخير”.
مدن بحجم الحب
عزلة مرتبطة بزمان ومكان يشكّلان مدينة تخلق فيها الحبّ، وتمضي فيها باحثة عنه في جميع الدروب التي كانت تألفها، وترغب في أن تكون على صورة العاشق الذي كان يسكن مخيلتها البائسة، رحلة البحث عنه في المدينة تبدأ من السماء، وتمرّ في جميع أماكنها، الشارع، الحديقة، البيوت، حتى الأهل، الذين يشكلون ملمحاً من ملامح صورته التي مازالت تحتفظ بها في ذاكرتها، لتعبّر عنها بألفاظ جاءت متناسبة مع الموقف الشعري، وحالته لديها، ولحالة العشق التي تعيش فيها، (مدينة- عقيمة- تلدك- عينيك- قلب- وحيد).
ذات تحتاج إلى الهدوء، والراحة، بعيداً عن الوحدة، وفوضى الحياة، والدمار والحرب، تحتاج إلى الطمأنينة، لتبلغ أعلى درجات التعلّق به لديها إلى أن تنتعت المدينة التي لم تلد فيها إنساناً مثله بالعقم والموت: “المدينة التي لم تلدك، لابد أنها عقيمة، مدينة لم تمر بها، لا سماء لها، مدينة لم تغمض عينيك فيها، مازالت تبكي بألم”.
شوق أبدي
“الحبّ أن تتركني بشوق، وتعود بعد برهة، لا لشيء، إلا لتضمني وتبتسم، أن تحمل معي حيرتي، حيرتي التي تضيّعني في غيابك”. يتشكّل عالمها المتخيّل من مجموعة مواقف تكررها في كل لحظة، ومجموعة تصرّفات لدى العاشق، الذي لا يتركها إلا بلهفة، ليعود إليها حاملاً معه أشواقه الأبدية، لتعلن ضياعها في حضرته، ووجوده، وتعلن أنها تتماهى معه كل لحظة، وهي تتقصّى حالة الشوق، والهجران معاً؛ في سبيل المحافظة عليه، عبر لغة تحفل بالبوح، وتقترب من لغة الحياة اليومية المشحونة بطاقات انفعالية، وشعورية، ليكون الملتقى معه جميلاً، من خلال مفارقات أوردتها بين كلمات وثنائيات متعددة، منها: (تتركني- تضمني- أنسى- أردد)، وهذه المفارقات لا تذكرها إلا لتوضيح صورة العشق التي تعيش فيها، وتحاول كل جهدها الحفاظ عليه، رغم كل الظروف التي تحيط بها.
– مريم تمر: شاعرة سورية، صدر لها (إلى صغيرتي قامشلو- شعر- 2013 – عن مكتبة الشباب)- (الأبله الذي يدق في غيابي- 2017، شعر- عن دار التكوين).
– ديوان (ورود من فم الحرب)، صادر عن دار الزمان، الطبعة الأولى، 2019، يقع في مئة صفحة من القطع المتوسط).