الثقافةشعر فصحى

عاطف عبد العزيز

مصر

التَّعارف على حِبال الرائحة
عاطف عبد العزيز

كثيرًا ما تُعَطِّلُنِي نَدَى مِنزلْجِي(*)، لاسِيَّما حِينَ أنْوِي اللِّحَاقَ فِي الصَّباحِ بِعَرَبةِ السَّكِينَة، تلكَ التِي اعتادَتْ أن تَنْتظِرَ رُكَّابَها عِندَ أوَّلِ البَلْدة.
ثُمَّ ما الذِي يُمكِنُ أن يَعْمَلَهُ كَهْلٌ فِي مِثْلِ حَالَتي حِيَالَ ضِحْكَةٍ كضِحْكَتِها، لمَّا تُعابِثُني من بَعيدٍ، وهِيَ تَبْعَثُ إليَّ بشُعَاعاتٍ منْ مِرآةٍ مكْسُورةٍ في يَدِها.
شُبَّاكُ نَدَى ليسَ عَالِيًا.
هوَ أيضًا ليسَ بالخَفِيض.
كأنَّها اخْتارَتْ لَهُ أن يكُونَ صَدِيقًا للكائِناتِ الهَشَّةِ التِي غالِبًا ما تُحَوِّمُ عَلَى مَقْربَةٍ مِنَ الأرض، الكائِناتِ التِي لا يَراها أحَدٌ مِن فَرْطِ حُضُورِها، كَرَفَّةِ الجَناحِ، كَهِزَّةِ الذَّيْل.
..
أُفكَّرُ الآنَ فِي الفَخِّ الذِي وَقَعَتْ فِيهِ قَصَائِدي البَاحِثةُ عَن مَجْدٍ في كَوْمةِ رَوْث.
أُفكِّرُ فِي قَلْبِيَ الجَامِدِ، وجَسَارَةِ استمرَاري حيًّا فِي عالَمٍ مثلِ هَذا.
أُفكِّرُ، كَيْفَ استحَالَ الاحتِرازُ مِنَ الغَفْلةِ ذاتُهُ، إمعانًا فِي الغَفْلة، وكَيْفَ استحَالَ الضَّعفُ فتنةً، نَصْطادُ بِها الفَرَاشَةَ من رَفِيفِها؟!
ثم أُفكِّرُ بَعْدَ ذلِكَ فِي قَسْوَتي، نعمْ .. قَسْوَتي علَى أولئِكَ الذينَ طالَما حَرَمْتُهم مِن مُتْعةِ إيلَامِي.
..
ربَّما فاتَني أن أكُونَ سُورِيًّا مُشَرَّدًا.
صَحِيحٌ، كَيْفَ لشَاعِرٍ جَادٍ في مَزَاعِمِهِ، ألَّا يَكُونَ سُورِيًّا؟!
أمرٌ كهَذا، يُلقِي ظِلالًا داكِنةً، حَوْلَ جَدَارتِهِ بالبَقَاءِ عُضْوًا، فِي لَوْحَةِ العَشَاءِ الأَخِير.
أمرٌ كهَذا، كفيلٌ بحِرْمَانِهِ من إدْراكِ الحَقِيقةِ على حَقِيقَتِها، ومن تَذَوُّقِ خَامَةِ القَهْرِ صَافِيَةً، قبلَ خلْطِها بالكَلَام.
بَلْ كفيلٌ،
بحِرْمَانِهِ من شَفْرةِ التَّعارُفِ علَى حِبَالِ الرَّائِحة.
..
قُلتُ مِرارًا:
تُعَطِّلُني نَدَى مِنزلْجِي، عَنِ المَجْدِ الذِي ينْتظرُنِي فِي كَوْمةِ الرَّوْث.

***

إشارة
(*) ندى منزلجي: شاعرة سورية معروفة وصديقة للشاعر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

إغلاق