الثقافةرواية

الروائي محمد بركة

مقطع من رواية أشباح بروكسل

 

مقطع من رواية “أشباح بروكسل” الصادرة حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للروائي محمد بركة.. وهي العمل الرابع لبركة حيث سبقها ” الفضيحة الإيطالية ” و” عشيقات الطفولة ” و” الزائر ” وثلاث مجموعات قصصية هى ” كوميديا الانسجام ” و” 3 مخبرين وعاشق ” و” عشيقة جدي”.

 */*/*/

الخطأ الذي لم تغفره السماء.

 

النسيم المنعش البارد هدية السماء و هي ترقب بعين فضولية قافلة صغيرة تسير عبر شريط ترابي ضيق بمحاذاة بحيرة فضية اللون لا حد لفتنتها .لا يعرف المشاة أين تنتهي المسيرة ، غير أن خطواتهم الجادة السريعة و أحذيتهم الرياضية التي تفقأ بسعادة بالغة أعين حشائش وليدة توحي بأنهم جنود ملتزمون بتعليمات قائدهم الميداني .

برناردينو !

جنرال سابق لم يشأ أن يتخلى عن ديكتاتورية القائد العسكري في سنوات تقاعده المديدة .له وجه يشبه موسولينى و كلبة عاشقة تدعى باترشيا ، يناديها الجميع بيا.

– وجهتنا محمية طبيعية تحتوى على 150 نوعاً من الزهور النادرة و تستقبل في هذا الموسم من كل عام مئات الطيور المهاجرة التي تتخذ من المكان محطة للتوقف و الراحة في رحلتها من جنوب أفريقيا إلى  شمال أوروبا . أعرف أن الشمس تسطع اليوم بقوة لكن يجب الحفاظ على مياه الشرب ، لا تستهلكوها سريعاً، فلن يكون بمقدورنا التزود بمياه أخرى قبل خمس ساعات على الأقل .

في دائرة هو مركزها ،وقف يتلو التعليمات الأخيرة قبل الانطلاق . كانت تميل على أذني لتترجم  خلاصة ما يقول . همست في أذنها:

– هل يجب أن نهتف الآن بالتحية العسكرية : تمام سيادتك ؟

كان تهكمي الخطأ الذي لم تغفره السماء . ضحكتْ فجأة ، وكعادتها الخالدة ، بلا اكتراث أو مسئولية . الشقراء الذي نحتها بديع السماوات  من صلصال الغواية و رشها بعطر اللامبالاة ،فجاء قدها ممشوقاً مثل غصن صنوبر ، طرياً مثل أنفاس الصباح .غرامها الأثير تحطيم كل القواعد مثل غزالة  بمحل للخزف الصيني  . قدري أن ألملم وراءها الشظايا المتناثرة .كلما حاولتْ السيطرة على نفسها ، انجرفتْ أكثر حتى كادت أن تسقط على الأرض . نظرات الاستنكار و الفضول تحولت تدريجياً إلى تعاطف ثم ابتسامات على وجوه  معظم أفراد المجموعة .

تدخلت محاولاً  الاعتذار بأكثر الكلمات الايطالية سهولة و انتشاراً

– اسكوزا !

غير أن برناردينو قال بصوته النحاسي المتعالي :

– ألا يكفى أنكِ أنتِ وصديقك العربي خالفتما التعليمات المرسلة إليك عبر بريدك الالكتروني و لم تحضرا كاباً أو قبعة .

– أولاً هو ليس عربياً ، هو مصري ينتمي إلى حضارة كليوباترا التي ركع أمامها قادة روما ، ثم أنه …..

قاطعها منفعلاً :

– أليست  العربية لغته ، فهو بحق الجحيم عربي ، ثم إنني لم    أقل أنه إرهابي أو محتقر للنساء رغم أن البعض قد يرى أنه كمسلم من الشرق الأوسط ربما كان كذلك .

– و أنا أيضا لم أقل أنك شاذ رغم أن البعض قد يرى ذلك كون شريكك في البيزنس مثلى الجنس يشترى ملابسه الداخلية من أشهر الماركات النسائية !

و حال تدخل حكماء المجموعة دون اشتعال الموقف أكثر ، و حال تدخلي  الممتن دون تكشيرها عن المزيد من أنيابها كنمرة تحمى عرينها . كنت أنا المتهم بمجرد نطق اسمه ، المدان بمجرد خلع نظارته الشمسية و إظهار ملامحه ، المنفى وراء أسوار اللغة و الجغرافيا و فروق البشرة و التوقيت ، أطبع  قبلتي على جبين غضبها . ألثم شفاه وحشها الصغير الصارخ في البرية . أضغط بأناملي على فوهة البركان حتى لانت و هدأت بفعل تلك الكيمياء اللعينة التي تتفتح لها ألف زهرة نارية على خرائط جسدينا .

انتظمت المسيرة .نحو العشرين كنا .  نتناثر في ثنائيات و ثلاثيات . ترسل الشمس تحياتها الخشنة على هيئة قطرات عرق متزايدة تعلو جباهاً أوربية اعتادت الغيوم و الأمطار و لم تعتد بعد مفاجآت التغير المناخي الزاحف بحرارته من جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى  شماله .

الأغلبية متقاعدون .ما إن بلغوا الستين حتى قالوا : الآن تبدأ المتعة الحقيقية و ننتقل في  علاقتنا بالحياة من مرحلة جس النبض إلى خلع آخر قطعة من الملابس ، بينما خلّفتُ  ورائي نظراءهم ببلادي ما إن يبلغوا تلك السن حتى يغلقوا الأبواب و النوافذ و يقولوا : أقبل يا ملاك الموت ، نحن في انتظار خطواتك المباركة فأسرع و لا تتأخر ..

لم يكن من الصعب أن ألاحظ أنها  تتعمد أن تتباطأ خطواتنا حتى أصبحنا بالتدريج آخر السائرين في المجموعة .و لم يحدس قلبي خيراً . تباطأنا أكثر فأكثر حتى أصبحت مسافة معتبرة تفصلنا عن الآخرين ، و دون مقدمات جذبتني من يدي إلى  الغابة المفروشة على يمين الطريق بسجادة هائلة من الظلال الرطبة تتخللها كرات شمسية مضيئة .أنزلتْ الشورت الجديد الذي اشترته لي من ” سوق الغجر ” . و على الفور أشهرتْ أسلحتها التي لم يعرف لها القلب مثيلاً : ضجة عارمة في أذني على إثر لسانها الذي يحفر عميقاً و” عضات حب  ” متوالية تطرّز كدمة زرقاء برقبتي . خرجت الحروف منى بصعوبة :

– سوف يبحثون عنا ، و برناردينو سيُجن جنونه .

– هو بالفعل جُن جنونه ، و لكن من مؤخرتي التي لم يرفع عينه من عليها أيها الأحمق ، ألم تعرف بعد السبب الحقيقي لمشكلته معنا ؟

كان صوتها المبحوح اللاهث يسحق آخر ما تبقى من أعصابي ووردتها الصغيرة  تطعن خنجري المتأهب لها  على الدوام . دوّت صرختنا معاً فانتبهت السماء ، و استيقظ آخر غصن نائم في الغابة الخرافية الموحشة …

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق