شعر فصحى
المصطفى ملح
سأعود يوما شعر: مصطفى ملح
عادَ موسى ولَمْ يَجِدْ رَمْسيسَ.
حَمَلَ عَصاهُ وعادَ إِلى أُورْشَليمَ.
عادَ المُزارِعُ بَعْدَ سَنَواتٍ،
ولَمْ يَجِدِ المَرْأَةَ ذاتَ العَيْنَيْنِ القُرْمُزِيَّتَيْنِ في الكوخِ.
عادَ الغريبُ مِنْ وَراءِ البَحْرِ ولَمْ يَجِدْ أُمَّهُ،
لَقَدْ أَكَلَها الطّاعونُ.
عادَ الجُنْدِيُّ مِنَ الثَّكَنَةِ ولَمْ يَجِدِ الماضِيَ،
لَقَدْ أَطْلَقَ النّارَ عَلَيْهِ أَحَدٌ في مَكانٍ ما.
المُزارِعُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ في النَّهْرِ.
والجُنْدِيُّ يَأْكُلُ العَيْنَيْنِ القُرْمُزِيَّتَيْنِ في القَبْوِ.
والسّارِدُ لا يَكْتَرِثُ لِما يَحْدُثُ،
لِذَلِكَ فَهُوَ طَليقٌ مِثْلَ الحَمامِ،
فارِغٌ مِثْلَ الضَّبابِ،
سادِيٌّ مِثْلَ إِبْرَةِ في يَدِ خَيّاطٍ،
طُفولِيٌّ مِثْلَ قِناعِ بَهْلَوانٍ،
لا يُفَكِّرُ أَبَداً،
لأَنَّهُ مُدْرِكٌ أَنَّ الأَفْكارَ سَيُزَجُّ بِها في السِّجْنِ!
مِثْلَ خُفّاشٍ حَقيقِيٍّ،
أَنْتَظِرُ اللَّيْلَ لأَخْتَبِئَ مِنَ النَّهارِ،
مِثْلَ طَلْقَةٍ نَفَدَ صَبْرُها،
أَنْتَظِرُ خُروجَ جَسَدٍ عَدُوٍّ لأَسْكُنَهُ.
مِثْلَ صَنّارَةٍ سادِيَّةٍ،
أَنْتَظِرُ سَمَكَةً ضالَّةً كَيْ أَحْتَجِزَها.
مِثْلَ مُتَصَوِّفٍ قَديمٍ،
أَنْتَظِرُ الشَّمْسَ لأُجَفِّفَ أَفْكاري..
عادَ المَسيحُ ولَمْ يَجِدِ الحَوارِيّينَ.
عادَ السّارِدُ ولَمْ يَجِدِ الثَّعْلَبَ.
عادَ الثَّعْلَبُ ولَمْ يَجِدْ مالِكاً الحَزينَ.
عادَ مالِكٌ الحَزينُ ولَمْ يَجِدِ الحَمامَةَ.
عادَتِ الحَمامَةُ ولَمْ تَجِدِ العُشَّ.
العُشُّ لَمْ يَجِدِ الغُصْنَ.
الغُصْنُ لَمْ يَجِدِ الشَّجَرَةَ.
الشَّجَرَةُ لَمْ تَجِدِ المَكانَ.
المَكانُ لَمْ يَجِدِ السّارِدَ.
أَنا لَمْ أَجِدْني!
لا أَحَدَ يَجِدُ أَحَداً، الوُجودُ غِيابٌ آخَرُ،
المَعْنى كِسْرَةُ خُبْزٍ في فَمِ كَلْبَةِ.
لا أَحَدَ يُفَكِّرُ في أَحَدٍ.
التَّفْكيرُ صَدَأٌ في المِحْراثِ،
لَكِنَّني أَخافُ أَنْ أَعودَ يَوْماً،
أَقْتُلُ حارِسَ السِّجْنِ بِالقَلْعَةِ،
أَوْ أُقْنِعُهُ بِأَنَّني لَسْتُ سارِقاَ للتُّحَفِ والجَواهِرِ،
فَإِذا اقْتَنَعَ وجَنَحَ للمُسالَمَةِ غادَرْتُ،
وإِذا قاوَمَ قَتَلْتُهُ ورَمَيْتُهُ في بُحَيْرَةِ التَّماسيحِ،
ولا بُدَّ من التَّأْكيدِ عل أَنّني
لَمْ أَكُنْ جاسوساً،
ولا عَشيقاً سِرِّيّاً للخادِمِ البَدينَةِ في القَلْعَةِ،
وصِلَتي بما حَدَثَ هِيَ أَنَّني رَأَيْتُ الفَتاةَ تَغْرَقُ في النَّهْرِ،
فانْدَفَعْتُ لإِنْقاذِها مِنَ المَوْتِ الوَشيكِ،
أَبوها أَطْلَقَ عَلَيَّ الرَّصاصَ،
وأَنا نَجَوْتُ بِأُعْجوبَةٍ،
والفَتاةُ تَبِعَتْني عارِيَةً كَسَحابَةٍ شَتْوِيَّةٍ،
وأَنا خَلَعْتُ روحي وغَطَّيْتُها بِها!
شعر: مصطفى ملح