الثقافةفعاليات ثقافية

د سلمان كاصد

العراق

أضع الآن بين أيديكم قراءتي ” البؤر الدافعة لتشكل التكامل النظري في النقد العابر للتخصصات” التي نشرت في العدد الأول من مجلة الأديب الثقافية صيف 2020 ، وبهذه المناسبة أقدم لهذه المجلة النقدية المهمة التهاني على إنجازها هذا العدد الثر الذي يشترك به نقاد متميزون .
تميط هذه القراءة اللثام عن الاستخدامات الرائجة للباحثين في حقل النقد التطبيقي من الطامحين لاستخدام النقد العابر والتكاملية النقدية في دراساتهم في الحقل النقدي.

البؤر الدافعة لتشكل التكامل
النظري في النقد العابر للتخصصات

تعالج الكثير من النظريات الأدبية النص بوصفه منتجا اجتماعيا ، وفي ضوء ذلك ظلت هذه النظريات تدور ضمن محور يمتلك بعدا فلكيا واحدا وهو المضمون ، بعيدا عن ما يمكن تصوره من أشكال تتجانس وتتغير مع تلك المضامين التي تقدم من خلالها ، إذ لا مطابقة بين الشكل الافتراضي والموضوعة المحورية في النص الأدبي .
ومن خلال ذلك نجد أن النظريات الأدبية تهرب من أشكال النصوص الممثلة لموضوعاتها كونها نتاجاً منطقياً لتمثلاتها .
هذا الأمر يجعل النظريات النقديه الحديثة ناقصة فلا اكتمال في آلياتها وأدواتها ، إذ لا تستطيع أن تمتد أبعد من حدودها الموضوعاتية إلا النظرية الشكلانية ، بوصفها منهجا يتناول الأبنية ويحللها، ويكشف مافيها من جماليات ، ولهذا أهملت الموضوعة بانفرادها كمسمى (بالشكل).
ووفق هذا المعطى نستطيع أن نفهم السبب الذي جعل جاك دريدا أكثر ذكاءً عندما عدّ التفكيكية ليست منهجاً ولانظرية بل هي إجراء.
هذا الإجراء هو اللعب بالتأجيل الدريدي ، الذي كان مضانه المعنى اللامتناهي ، والكشف المتواصل الذي لايقف عند حدود المعنى الواحد ، ولهذا نجد أنه لايتوقف عند الحدود الإفتراضية , وبذلك ينتهي الإجراء عند دريد بانتهاء الإطار الذي يحيط بالنظرية والنص بعيداً عن مؤثرات هذا النص الخارج نصي .
من خلال هذا التوصيف نرى أن النظريات الحداثية ومابعد الحداثة لم تجد في الشكل لعباً ولم تحدد ماهيته ونظامه الافتراضي ، ولذلك كانت الإجراءات التوصيفية للحداثة، على انها لعب باللغة فقط تقترب من الصواب والمعقولية، على وفق ذلك لم نجد نظرية نقدية استطاعت أن تقدم قراءة ضامة كبرى للنص في بعديه الموضوعاتي والشكلي ، إلا مايطلق عليها بالنظرية النقدية العابرة للتخصصات بوصفها نظرية تمتلك بعداً تكاملياً ، ولو افترضنا مايمكن أن تكون عليه هذه النظرية فإننا نستبعد مصطلحي التداخل والتشاكل في وصفها ، كون الأخير مشابهة اجناسية فيها من التعالقات مايجعلها نظرية واحدة لانظريات متعددة ، بسبب العناصر المشتركة التي تحتويها كل نظريه تشاكلت مع الأخرى

التماثلات الاصطلاحية

إن التشاكل يخلق التماثل إلا في بؤر قليلة تحدد الإجناسية النقدية ولهذا تفشل المشاكلة ، بين الأجناس النقدية مادامت غير مستوفية القدرة على تناول الشكل النصي .
هذه التماثلات الاصطلاحية تعتبر واجهه نظرية تحدد اشتراطات التكامل أكثر مماهي معنية بالتشاكل ، مادامت النظرية مابعد الحداثية تميل الى التخصص ، غير أن هذا التخصص بات ناقصاً كونه لايحتوي التراكيب المنهجية بكاملها .
إن الرؤية الجديدة لنظرية مابعد الحداثة ، هي باختصار إنتاج معرفي استثنائي غير قابل للأحادية إذ لانكتفي بالعنصر الواحد المنفرد لتفسير العالم ، ولذا تميل إلى تجميع العناصر لخلق بنية أساسها التجديد في اللغة النصيه لما يمكن أن نطلق عليه ( البعد الحداثي ) وهذا ماتريده النظرية العابرة لتخصص بعينه ولايتم ذلك إلا عبر إجراء جديد يمكن الاتفاق عليه وهو نظرية التكامل النقدي والتي تشتغل عليها أغلب أدوات النقد المابعدية .
أما الخطابات غير التخصصية فهي النموذج الأكثر تجاوباً في خلق النظرية النقدية العابرة للتخصصات والتي تمتلك أنساقها التي يمكن أن نجد فيها مانطلق عليه المشابهات.
الخطابات غير التخصصيه يمكنها أن تغير الأدوات والإجراءات والمفاهيم مادامت هذه الأخيرة تحتاج إلى عناصر المشابهة التي تجعلها في تعالق (الناقص بذاته) من أجل الوصول إلى المكتمل بالآخر.
هناك نزعة جديدة بسبب معايير التغيير الذي تستدعيه الأزمة النقدية تدفع بأتجاه التغيير ذاته ، لانبثاق التوليف والتكامل بين المناهج لا التركيب بينها ، وكل ذلك من أجل تجاوز النظرة الأحاديه كي تخلق مناهجية متعددة ، تجمع جزءاً مضيئاً من كل منهج بمايساعدها على خلق القدرة الاجرائية وليست النظرية.
والسؤال الأهم .. وهو عماذا نبحث نحن ؟ ، هل نبحث عن نظرية منفردة في النقد؟ أم أننا نبحث عن آليات وإجراءات نقدية قادرة على تمثيل النظريات والمناهج بمانطلق عليه الاجراءات والآليات المعرفية / الأدواتية التي تعبر بهذه التداخلات النظرية العابرة للتخصصات الى النجاح .
المنهج والنظرية حصيلة قراءة مختلفة للنص ، أو مايمكن أن نقول إنها رؤية لبنية ضامة ، تمثل عالما مكتشفاً رؤيوياً أو فكرياً ، أما النظرية النقدية العابرة للتخصصات فهي نتاج تلك النظريات الأحادية ، إذ لولا أحادية النظريات الحداثية ما أنتجت النظرية النقدية العابرة للتخصصات ، باعتبارها بعداً جديداً جامعاً للأحادية في شكل جديد لمانطلق عليه السوسيوثقافي المعاصر مابعد الحداثة.
هل تتغير الأدوات في النظرية النقدية العابرة للتخصصات ؟ ذلك سؤال مهم يتبعه سؤال آخر، وهل تبقى المصطلحات في النظريات الأحادية بعد تشاكلها على ملفوظها أم تتغير من جديد كونها استوطنت بيئة جديده مغايرة تماماً عن بيئتها الانفرادية ؟
هل تبقى النظرية النفسية حين تعالقها مع النظريات الأخرى في ذات الاصطلاح أم تجد لها مصطلحاً جديداً يتعايش مع الفضاء النقدي الجديد؟ ذلك ماتشيرله عناصر التوافق الجديدة.
وقد نسأل هل نجح جاك دريدا حقاً حينما لم يطلق على اجتراحاته وآلياته النقدية التفكيكية بالنظرية أو المنهج ، بل جعلها إجراءً وطرقاً عامه لاترتبط باجتراح نظرية خاصة.
ولكن لماذا لم تكتشف النظرية النقدية الحديثة بذاتها ، مما يجعلنا في مواجهة اصطلاحية بالدرجة الأولى مع السايكولوجية والاجتماعية والنقد الجديد – عبوراً الى البنيوية والتفكيكية والسيميائية واللسانية والتيار الثقافي ، بما نطلق عليه تيار مابعد الحداثة ، ومابعد الاستعمار ( الكولنيالية) .

بواطن النص

كل ذلك اعتبر نظاماً متكرراً لايستطيع أن يكشف بواطن النص بأدواته التي تريد أن تصل إلى الحقيقة الكاملة ، وبالتالي لابد من اللجوء إلى التعاضد والالتقاء النظري لخلق مايمكن أن نطلق عليه العبور الى التخصصات المشتركة.
وسؤالنا الأهم .. هل المعنى متعدد أم هو أحادي ؟ ومادمنا نجد أن المعاني في النص الواحد متعددة إذ لاأحادية في حقيقة المعنى الواحد وبذلك كان استخدام المناهج المتعددة في سبر أغشية المعنى الخارجية ضرورة ملحة تتمثل في المنهج (( التكاملي )) أي النظرية النقدية العابرة للتخصصات.
وهنا أتفق تماماً مع النقاد عباس عبد جاسم في اختلاف تسمية ( العبر – منهجية ) لتجاوز المناهج التقليدية ، ويجري ذلك في إطار الجسد النصي الذي يفرض استخدام هذه الآلية الجديدة لا آليات المناهج القديمة .
بلاشك أن العابر للتخصصات الذي يطلق عليه بالتكامل المنهجي ماهو إلا امتزاج ( قصدي ) بين منهج أو منهجين أو تلاثة بما يسمح بالتعددية ( نظام فكري عابر للاجناسية أيضاً ) وهذا لايصح إلامع البنيوية في مضانها الأول ، متبوعة بالتفكيكية والألسنية أما بالسوسيولوجيا فلا يمكن الاستعانة به كون الأولى شكلانية والأخيرة موضوعاتية.
أما من حيث التضارب بالمفاهيم التي يشيرلها أكثر من باحث حال اجتراح منهج تكاملي ، والتخالط في المقاييس التي يصر عليها نقاد ضد النظرية العابرة للتخصصات ، يمكن الرد عليها بسؤال جوهري ألا وهو :
مامدى نجاح النظرية الأحادية في الكشف عن نص ابداعي بآليات واحدة ؟ ومثالنا في ذلك ( هاملت لشكسبير وتناولات النظريات النقدية الحديثة لها : فهل قدمت قراءة نهائية للنص أم أن التعدد في المناهج يواجه بفشل الوصول الى المعنى الواحدي.
إذا اقتنعنا جدلا أن التفكيك محاولة لخلخلة مركزية المتن والانفتاح على الهامش ،فهي بالضرورة قد انفتحت على منهجيات أكثر سعة عبر آليات معرفية متعددة ومتخلقة تعيد تشكيل ذاتها بقدرة وحيوية عالية تواجد كل ماهو تقليدي جامد .
وكما يتداول المختلفون ان التكامل المنهجي العابر للتخصصات يمتاز بسمات إخفاقية أهمها :
١- أنه نقد تلفيقي .
٢- توسع الدلالات الاصطلاحية وتعددها بتعدد النظريات النقدية العابرة للتخصصات.
٣- تعددي في الرؤية ، مضلل في المعنى ، لتنوع الاصطلاح .
٤- زائف لاينتمي لرؤية نقدية واحدة قارة
٥- لا اجتراح فيه أو يقدم اجتراحات ليست مستنتجة بفعل نظري واحد . ٦- لايمتلك جذراً معرفيا واحدا.
٧- التشابك في آليات استخدام المصطلح .
٨- اللامنهجية .
٩- اللااستقلالية .
١٠- الاضطراب الاصطلاحي وتعدد مصادرها .

بمقابل ذلك يرى الداعون والمتبنون لهذه النظرية العابرة للتخصصات أن هذه الحركة النقدية بها من سمات النجاح الكثير ومنها :
١- دعوة لتقارب المناهج .
٢- تكريس للتعددية الفكرية والذهنية والايديولوجية الحرة .
٣- الأنفتاح بأدوات متعددة على النص بما يصبح النقد غير قار على منهج أحادي.
٤- التوافق مع سمة العصر المابعدي وهو التعددية أي تقويض المنهج الأحادي المركزي .
٥- تحقق الاقتراب من جوهر مركز النص بآليات مختلفة .
٦- الديمقراطية في التجمع المنهجي .
٧- ابتداع منهج يطلق عليه جان بياجيه ( النظرية عبر المنهاجية ).
٨- التوافق مع روح العصر المنهجي في التضاد والمشابهة.
٩- تحقق العبور المنهجي للثقافات وتلاحمها .
١٠- المتغيرات النظرية تترافق مع التطورات النصية ومعالجتها .
١١- التحرر من الايديولوجية الشمولية .

التوافق والاختلاف

على وفق حجج التوافق و الاختلاف بين المعارضين والمؤيدين للنظرية النقدية العابرة للتخصصات ، نرى أن هذا الناتج المعرفي لايتحقق بالتداخل حيث تضيع السمات الخاصة ، فتختلط بالأخرى من باب المجاورة الاصطلاحية اللاتوافقية ، ومن جانب آخر فإن النظرية ذاتها لاتتحقق أيضاً بالتشاكل ، كون الأخير يفقد الإجراءات خصائصها وسماتها وبالتالي تضيع المشابهة بالاختلاف ، أما التكامل وتحققه فهو الأقرب لتوصيف سمات النظرية النقدية العابرة للتخصصات حتى ليصبح التكامل المنهاجي بوصفه الأب الروحي للمناهج الداخلة في فضاء التكامل ، أي بمثابة البنية للعناصر ، حيث تشكل البنية المضافة من مجموعة عناصر مضمومة ، لاتحيل – الاخيرة – على نفسها بل تميل على المهيمن الذي أصبح بنية وهي النظريات المتضامنة.
إن النظرية العابرة للتخصصات أو الثقافات أو الاحاديات المعرفية هي المثاب الأخير لفهم النص والوصول إلى حقيقته ، إذ طالما كان الفكر يقدم النظريات الأحادية عبر كل العصور ظلت الحقيقة وهمية غائبة وظلت الآليات غير قادرة وقاصرة على اكتناه المعنى الكلي وهذا ما أشرنا إليه في استهلال هذه المقالة.
من خلال كل ذلك نجد أن التعارض بين جهتي المبنى والمتن هذا باختصار هو الأختلاف في زاوية النظر ( التبئير النقدي ) بين النظريات الحداثية التي اشتغلت على المتون والبنى النصية .
وعلى وفق هذه النتيجة وبسبب التغيرات التي أملتها حقبة مابعد الحداثة كان لابد من تشكل النظرية النقدية العابرة للتخصصات ببعدها التكاملي لأنها تجيب عن السؤال التالي :
مالعناصر المحفزة على ظهور النظرية النقدية العابرة للتخصصات ؟
إلى ذلك نقول : إن من أهم العناتصر المحفزة هي اللاتخصصية ، اللاجذرية أي انبثاق الأفكار التي تعتمد على اجتراحات تحتاج إلى التجذير كونها غير مكتفية بذاتها حيث تلجأ إلى التعاضد والتكامل مع الاختصاصات الأخرى.
وكل ذلك يجري في عصر انتهت فيه دعوى الأحادية في جميع المفاصل التي تمثل رؤى واحتياجات الفرد والمجتمعات وحتى التنظيمات الدولية ، إذ لم تعد مفاهيم الاكتمال الذاتي قائمة في الفكر والأقتصاد والمجتمع ولهذا ظهرت المناهجية المتعددة الوجوه والتي تعطي النظرية النقدية العابرة للتخصصات سماتها وخصائصها الديناميكية .
إن أهم البؤر الدافعة لتشكل النظرية النقدية العابرة للتخصصات هي :
١- تراجع النظرة الى الذات وتكريس رؤية الآخر.
٢- عدم اكتفاء النص بذاته وانفتاحه على التأويلات المتعددة الوجوه بفعل القراءات الاجتراحية المختلفة.
٣- التغيرات الاضطرارية للعالم وتحولاته بفعل التواصل الكوني وظهور العولمة وتجاور الهويات والأصوات وتداخلها ، وهنا يشير الناقد عباس عبد جاسم إلى مجموعة أخرى من المحفزات وأهمها بقوله |(أزمة النظام الرآسمالي التي أفرزها التطور التراكمي للثورات العلمية ، واكتشاف مبادئ اللايقين واللاتعيين وخاصة نظرية الكوانتم التي فككت الحتمية واليقين باكتشاف فكرة الاحتمال أو ماأسمته بمبدأ الأرتياب ).
هذا التوصيف يجعل النظرية النقدية العابرة للتخصصات ضرورة يفرضها العصر بتغيراته الانفجارية أولاً ، وعدم ارتكانه إلى السكون القار وعليه نقول : إن النظريات الأحادية ولدت في بيئات ساكنة منفصلة عن بعضها فأنتجت نظريات ساكنة ذات أطر مغلقة لاتعترف بالآخر ، أي التمحور حول الذات ،وحالما بدأت مرحلة مابعد الحداثة ( يطلق عليها عباس عبد جاسم ( الحداثة البعدية ) بدأت التصدعات في النظريات القارة تلك ووضعت أمامها حرية الالتقاء مع الأخرى بتشكل حركي جديد يتمثل بالنظام التكاملي الذي هو ( النظرية النقدية العابرة للتخصصات ) .
وقد نسأل هل تعد هذه النظرية نظاماً مغلقاً ؟ أم هو نظام متحرك يستجيب للتحولات ؟ في العلوم والنصوص وانهيار المقدسات النصية بفعل الاتجاه إلى الثقافات المفتوحة مع أنفتاح العالم الكوني برمته حتى أصبح يشكل كتلة واحدة لاتمتلك وجهاً واحداً فقط .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق