الثقافةشعر فصحى

عاطف معاوية

المغرب

رسائل لا تحتاج لطوابع أو ساعي بريد
.
صباح الخير، ها أنا أستيقظ حاملا بداخلي حلما ساخنا ، كما تعلمين العالم الآن يعيش ما يشبه النهاية ، أو كما أطلقتْ عليها منظمة الصحة العالمية “الجائحة” . عندما فَرضت الحكومة المغربية حالة الطوارئ الصحية اختفيتُ داخل بيتنا ، توقفت عن العمل ، إنها حالة انفصال للعالم و هو يحارب قوة مجهولة لكنها حقيقية ، لست من الذين يُكذِبون ما يقع الآن من موت و من ارتفاع المصابين في كل أنحاء العالم ، لا أحسنُ التمثيل ، لقد وضعت نفسي داخل عزلة
و أمام مفهوم الخوف بكامله ، كنت خائفا و في نفس الوقت كنت متحررا في عالم أخر ، عالم الكتب و الأفلام ؛ قرأت 21 كتابا و شاهدت 6 أفلام و مسلسلين ، وكل هذا كان مختارا بعناية .كتبت أيضا خربشات كنت أنشرها في رمضان ، كتبت شعرا أيضا و استمعت للأغاني الكلاسيكية المغربية .
كنت أعيش بهدوء و نظام عكس ما يقع في الخارج ، كنت أتلصص من النافذة ، أرى دوريات الشرطة تجول و أسمع أصوات الإنذار التي تطلقها سيارات الاسعاف .
تعلمت شيئاً واحداً في المطبخ ، هو إعداد الشاي الأخضر الذي أصبحت أتقنه بشكل صحيح و لذيذ بشهادة أمي و إخوتي .
تذكرتك في كل أحلامي و حتى في أحلام اليقظة ،
تذكرتك وأنت تمشين على الرصيف و تغنين أغاني فيروز وأنت تضحكين أمام باب الكنيسة ، هل تتذكرين يوم الخميس حيث شربنا الشاي هناك
و حكيتِ لي حكايات جدتك و حكاية الذئب ،كنا وحيدين في الكورنيش نتراشق بالورود الصغيرة .
لقد صدقتُ هذه الأيام و هي تخبرني عنك في كل الأوقات ، صدقت وداعك و تلك الرسالة التي لا زلت أحتفظ بها ، يوما ما سأنشرها (على الفايسبوك)، صدقت هذا الزمن الذي فرقنا تحت ما سماه الله بالقدر، لم يسعفنا البحر و لا زرقة السماء
و لا الكنيسة و لا الرجال السبعة، لا زلت أحتفظ بصورة لكِ
و أنت واقفة أمام القبة و خلفك البحر و السماء .
أتذكر الشرطي الذي قال لك : تشبيهن إبنتي ما إسمك ؟ ابتسمتِ و انت تقولين له “هذا يسعدني”!.
هل تغرق الموجة في نفسها ؟ هكذا أَنْهَيتِ رسالتك الأخيرة التي مزقتها و أنا أفكر فيك ، كيف لي أن أصدق غيابك عني و عن الحكايات و عن البحر والغابة ؟ و كيف لي أن أعلق مشانق خطواتي الصغيرة وحدي على الطريق ؟ ، كيف لي أن أذهب للبحر وحيدا ؟ و بماذا سأجيبه إن سألني عنك وعن غيابك ؟ و ماذا عن الأسئلة التي كَتَبتِهَا على غبار زجاج مقهى “الشيخْ” ؟ و ماذا عن اسمك المكتوب في الرمل ؟
لا زال الرمل يحتفظ بآثار قدميك ، لا زال اسمك مكتوبا بوضوح على حائط الكنيسة ، لا زال يواسيني في فكرة الرحيل و فشلي في النسيان و البكاء .
ِليس في وسعي أن أضحك كما كنتُ سابقاً ، كما كنتُ معك ، لكنني أفكرُ في غيابكِ و كيف تتحملُ *كولونيا وجودكِ الشقي و المتمرد و كيف تعيشين بعيدة عن البحر ، لكن سبق
و أخبرتِنِي أنها تقعُ على نهر طويل جميل . لست أغبطكِ
و أنتِ هناك في ألمانيا، لأنني لا أجدُ نفسي خارج هذا الأزرق المالح ، صعب أن أخرب قلبي و روحي و أن أقيم بعيدا عن قرية الصيادين، بعيدا عن البحر و الموج ، أحب هذه القرية
و أنتِ على علمٍ بهذا ، ولدتُ هنا في فجر ممطر بمدائح السماء و على ضوء شمعة تحرق جسدها على ولادتي أو من أجل إنسان ، من أجل بداية ربما كانت تسألُ مثلَ ما أسأل أنا دائما، ما البداية ؟
لا زلت أذهب في غيابك إلى بيت التراب في “سكرينيا” بيتنا الحجري القديم ، هناك أكتفي برائحة الأشجار الطويلة
و بصوتك و أنت تغنين و تصفقين ، كان بيتنا غامضٌ كما تلك الأيام الجميلة التي تطل من ذاكرتي كضوء ، كلما عدتُ إلى هناك تطل السماء الزرقاء ، تطل العصافير و أصواتنا
و صورتنا الأولى و نحن نغرس شجرة الأفوكا ، للأسف لم تكبر لم يتركُوها تطل على نفسها ، ربما سرقوها ، لا أعرف كيف يصبح المرء عدواً لأشياء ليست عدائية أو خطيرة ، لا أريد الإساءة لأحدٍ و لكن أنا على يقين أنهم قتلوا حلمنا ، كان طموحنا أن نترك ذكرى و صورة لأمسنا القريب كما ترك فينا البحر رائحته و لونه الأزرق .
أحس برغبة في المشي تحت المطر كما كنا نفعل ، لكن اليوم كان مشمسا إنه فصل الصيف ، الذي لم نحمل منه ذكريات عديدة كما الشتاء و الخريف و الربيع ، نادرا ما كنا نلتقي صيفا ، في أغلب الأوقات كنت تذهبين لسبتة أو إلى وجدة
و فاس ،و كنت أنا الدندنة التي يرددها البحر على مسمع الجميع هنا …
أراك الآن بصورة واضحة و أنت تمسكين فنجان قهوة سوداء و جريدة “المساء” أسألك ماذا كتب رشيد نيني ؟!
لو كنتُ أعلم أن هذا الغياب سيطول هكذا لكنتُ حقيبة لك
و لرحلت معك ، حتى و أنني لا أحب ألمانيا منذ دروس الثانوية و أكره هتلر و النازية . حتى و أنني أكره مصطلح البورجوازية لذهبتُ معك لتحقيق السلام مع النفس و مع هذا الحنين .
أحدق الآن في ساعة الحائط لأعرف كم بيننا من عمرٍ ، و كم بيننا من ريح و مطر و شوق . هل لا زلت تحبين النوم على أغنية “أحن لخبز أمي” لـِ مرسيل خليفة ؟ .
هل هناك غابة في كولونيا للكلمات و للدهشة و الصمت ؟.
أنا هنا يصيبني الصيف بالعقم ، لا أكتب شيئاً سوى كلمات قلق من أيام ملعونة لا تغريني للكتابة و لا للحياة .
أكره الصيف مثلكِ و مثلكِ أستعجل الأيام و أصنع لغة
بلا معجم ، لكن لا تقلقي عليَّ فأنا هنا أصنع بوصلة تدلني على وجهك ، تدلني على الخطى الأولى في رياض العشاق في مقهى الغرسة الكبيرة ، تدلني على أمسيات مرتيل الحافية من البنات والنبيذ.
سأودعك الآن لأنني في حاجة للهواء ، لقهوة تعيد نبض قلبي، تعيد بوصلتي إلى صراع ضد كورونا ضد الهروب الكبير، لا تنسي أنني لا زلت أستعمل عطرك الذي أهديتني إياه في عيد ميلادي و نحن نمشي على أحلامنا …

عاطف معاوية.
20 يونيو 2020 ، الرنكون .
______________________
*كولونيا : مدينة في ألمانيا .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق