الثقافةشعر فصحى

عاطف عبد العزيز

مصر

كائنات الغرفة

حلمتُ في صباي أن أكونَ واحدًا من سكّانِ وسط البلد، أعني القاهرةَ التي تراءت للخديوي إسماعيلَ في ساعةِ سُكْر، فعقد العزمَ على سبكها من أجل عيونِ حبيبتهِ جامدةِ القلب .. أوجيني.
اخترتُ بنايةً لها مصعدٌ من الموبيليا ومن الحديدِ الزخرفيّ، لها دَرَجٌ من رخامٍ أبيض، وشرفاتٌ على الطرازِ القوطيِّ. كانت البنايةُ تطلُّ على دار القضاء العالي، بما يُمكِّنني من مشاهدةِ التظاهرات التي سوف تخرج ذات يوم، مطالبةً بعودةِ الوفد، أو مشاهدةِ الغوغاءِ حين سيسحبون أخشابًا مشتعلة، ويشرعون في حرقِ العاصمة.
قلت: لتكن 28 شارع فؤاد الأول.
في الطابقِ الرابعِ كان لنا جيرانٌ يونانيون: الرجلُ يضاربُ في البورصة، والمرأة تدخّنُ سيجارتَها من مبسم طويل، كان يحلو لها أن تزورَ أمّي الريفيةَ الممتلئة، وهي ترتدي رُوبًا منزليًا من الحريرِ الأحمر، ينحسرُ عن ركبةٍ بيضاءَ كلما وضعتْ رِجْلاً على رِجْل.
كان من اللازمِ دراميًا، أن أحبَّ كاترينا بنتَ نيقولا مضاربِ البورصة، التي كانت تكبرني بسنةٍ كاملة، إذ سمحَ لنا الجوارُ أن أرتادَ غرفتَها من آن إلى آخر، كي أتأملَها غارقةً في العزفِ على البيانو، أو قراءةِ أشعارٍ ليونانيٍّ ميت تسمِّيه كفافيس، بينما أتظاهر بملاعبةِ مارجو، قطتِها النظيفةِ، وأنا أختلسُ النظرَ إلى سوتيانٍ تدلّى من دولابٍ موارَب.
لأسبابٍ غيرِ مفهومة، كنتُ أتجنَّبُ النظرَ إلى العذراءِ المحطوطةِ على الكومود، لكنني سرعان ما أدمنتُ المقارنةَ بين التمثالِ الغامضِ وبين كاترينا، ولاسيما حين أتتبَّعُ ذلك النمشَ الخفيفَ على عنقِها المتطاولِ، عند التقائهِ بالكتفِ المنبسطة.
كان من اللازم دراميًا أيضًا، أن تتلهَّى فتاةٌ كتلك بالصبيِّ العاشقِ في أوقاتِ فراغها، أن ترى فيه أداةً مأمونةً لعاداتِها السريَّة، أو غطاءً لغيابِها في المشاويرِ الخطرة، دون أن تحطِّمَ حلمَه بأن يكونَ صهرًا لكفافيس ذات يوم.
في خضمِّ التحوُّلات، غالبًا ما يصابُ أمثالُنا بشيءٍ من الاضطرابِ الذهنيّْ، فنصبحُ صورةً لبارِ الخيَّامِ، الذي استحالَ -بين ليلةٍ ويوم- معرضًا للأحذية.
يرحلُ الناسُ إلى بلادهم تاركينَ لنا أوراقًا بخطِّ اليدّْ، أو مارجو، أو مزقةً من فستانٍ كان قد تحوَّلَ بالوقت إلى مِمسحةٍ لحبلِ الغسيل، الأمورُ هذه سوف تقودُنا بعد ذلك إلى فتياتِ الأرصفة، ذوات السراويلِ الرطبة، اللاتي سيتركنَ بدورهنَّ بثورًا لها رؤوسٌ سوداءُ بين أفخاذِنا، لتكونَ -فيما بعدُ- علامةً لا تزولُ على لياقتنا بسوقِ الكلامِ عن الماضي.
حلمتُ في صباي أن أكونَ واحدًا من سكَّانِ وسطِ البلد، غير أنني خفتُ من هجرانِ كاترينا، خفتُ أن أصبح مؤتمنًا على تذكاراتِها التي لا تكفُّ عن التنفُّسِ بصوتٍ عالٍ في زوايا الغرفة، خفتُ أن أصبحَ مضطرًا -تحت الضرورةِ الدراميةِ مرةً أخرى- إلى الاحتفاظِ بحيوانِها الطيّبِ .. في حوضِ الفورمالين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق