من الوعي بالسقوط إلى الوعي بالكتابة قراءة في المجموعة القصصية ” دموع باردة “ للسعدية الفاتحي
د. المصطفى سلام
عرف المشهد القصصي بالمغرب تنويعا في الكتابة، من حيث ارتفاع عدد الكاتبات والكتاب، ومن حيث جمالية الكتابة و هندسة البناءات القصصية، ومن حي نضج الوعي بأهمية هذا الجنس الأدبي أو اللون التعبيري في التقاط اليومي وتمثيل الظواهر الاجتماعية والنفسية خاصة والإنسانية عامة… ومن بين الأسماء الصاعدة في هذا المجال، نذكر الكاتبة السعدية الفاتحي في مجموعتها القصصية ” دموع باردة ” .
العتبة وتنوير الداخل :
كشف الدرس النقدي المعاصر ما للعتبات النصية من أهمية بنائية و تدليلية في عملية تلقي النص الأدبي ، سواء كانت تلك العتبات عناوين أم مقدمات أم مقتبسات أم إهداءات … إنها تتيح للقارئ الولوج إلى عوالم النص و الاقتراب من مداراته الدلالية الكامنة أو المتوارية بين طياته اللغوية . و نظرا لأهمية هذه العتبات سنقف عند :
العنوان :
يشبه العنوان الثريا التي تضيء النص ، إنه أثر تدليلي يحمل القارئ إلى عالم النص و يؤسس أفق توقعه . فكيف ذلك بالنسبة ل ” دموع باردة ” كعنوان ؟
يتألف هذا العنوان من كلمتين:
– دموع : جمع دمعة، وهي من المادة اللغوية ” د،م،ع” والدمع ماء العين . وله معاني و دلالات أهمها السيلان و الامتلاء و الفيض ثم البكاء . و معلوم أن الدموع تتدفق من الغدة الدمعية باتجاه سطح العين عبر قنوات صغيرة ، نتيجة انفعالات عاطفية شديدة أو مؤثرة مثل الفرح أو الحزن أو قد تكون نتيجة عمليات فيزيولوجية مثل الجراحة أو نتيجة عوامل خارجية من قبيل الحساسية . و للدموع كما هو معروف، وظيفة محورية تتمثل في حماية العين من الجراثيم و تليينها. و عامة تنقسم الدموع إلى ثلاثة أصناف أساسية: دموع أساسية أو قاعدية ثم دموع رد الفعل نتيجة تهييج للعين ثم أخيرا دموع العاطفة أي دموع الانفعالات النفسية التي قد تكون سلبية أو إيجابية… فأي الدموع تحضر في النص ؟ و ما دلالة ذلك ؟
– باردة : صفة ونعت للدموع، و هي نقيض الحارة. و الدموع عامة إما باردة أو حارة. حسب نوعية الانفعالات التي تتأثر بها الذوات . و كلما تنوعت الانفعالات و الوضعيات العاطفية و المؤثرة في الإنسان إلا و تنوعت تبعا لها الدموع . هكذا تكون الدموع ناتجة عن انفعال معين . و هو رد فعل الذات أو تأثرها في وضعية معينة : الفرح ، الحزن ، المرض ، الموت ، الخوف ، الإخفاق ، الفشل ن الاغتراب ، الندم ….و تقترن الدموع أيضا بالبكاء ، و هو من الانفعالات الشديدة ذات التأثير الواضح في الإنسان . فقد يبكي لأسباب خارجية أو داخلية ، لحالات عاشها أو تجارب قاسية مر منها ، أو وضعيات وجودية تأثر بها .
يرد العنوان كتركيب لغوي في المجموعة القصصية مرتين : في قصة ” عيب خلقي ” حيث تصف الساردة امرأة ترتق بجدار حجرتها كل الثقب و هي تبكي و تكتب بالطين دموعها الباردة …و الدموع هنا ناتجة عن انفعال عاشته المرأة لما وعت بعجزها و قصورها عن سد ثقوب حجرتها أو بيتها . وهناك تشابه أو تشاكل بين البيت و الجسد ، فهما معا يستران و يحميان الذات و يستران عيوبها . و المرأة العربية عامة تحمل في وجودها لعنة الفضح أو لعنة العيب الوجودي اختلافا عن الرجل. و متخيل العيب في الثقافة العربية تأسس حول المرأة أكثر مقارنة بالرجل . كما يحضر العنوان بنفس التركيب اللغوي في قصة ” دموع باردة ” حيث تحكي القصة عن امرأة معاقة ، نسجت علاقة حب مع شخص عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وفي محاوراتها الأثيرية لم تخبر المرأة محدثها عن إعاقتها ، اعتقادا منها أنها قادرة على تحدي تلك الإعاقة . لكنها تبكي و تذرف دموعها الباردة حين شعرت بان ابنها يخاف عليها أن تسقط حين تصعد الدرج . فالعلاقة الجديدة شبيهة بالدرج في الصعود والتعلق ، لكنها تتطلب مهارات و استعدادات نفسية و بدنية ، و هذا ما تفتقده البطلة في القصة . كما أن هذه الوسائط الجديدة أتاحت آفاقا جديدة للعلاقات البين إنسانية ، غير أن للواقع سلطته و قهريته.
من خلال هاتين القصتين ، يتبين أن الكاتبة تسرد على لسان شخصيات القصص – و هن في الغالب نساء- وضعيات انفعالية مختلفة و مؤثرة ، هي السبب في البكاء و بالتالي إسقاط الدموع الباردة . و كلما كانت التجارب قاسية و الأحاسيس سلبية و متواصلة أو دائمة ، كانت الدموع باردة …و هناك وضعيات مختلفة رصدتها الكاتبة على لسان رواتها حيث يسردون انفعالات و يحكون عن أحاسيس تجعل العين تدمع والقلب يحزن و لعل أكثر الانفعالات حضورا في المجموعة ككل انفعال الحزن .كما أن البرودة هنا تشي بالمعاناة والقسوة والمحنة التي تعانيها الذوات في عوالم النصوص التخييلية .
الإهداء :
هو من بين العناصر المحيطة بالنص أو اللاحقة به مباشرة . وتكمن أهميته في تحديد هوية المهدى إليه في علاقته بالكاتب / بة من جهة و بالمحتوى من جهة ثانية . و فيما يخص هذا العمل الفني ، يتحدد المهدى إليه من خلال اسم الإشارة ” تلك ” الدالة على البعد والقرب ، الانفصال والاتصال . و هناك محددات أخرى تشي بهوية المهدى إليه: ” التي لا تعرف للتوبة بابا ” فّإذا كانت التوبة تعني الاعتراف بالخطيئة و الندم على ذلك الفعل ، و العزم على عدم المعاودة ما اقترفه الإنسان من آثام ، فإن المهدى إليها هنا تبدو في وضع ملتبس ، قد يحار في الحكم عليه بعض من في جعبتهم لفائف الأحكام و صكوك الإدانة لمختلف النوازل. إن المهدى إليها تتحدد ضمن دائرة المؤنث ، فهي إما مذنبة أو طاهرة ، عاصية أو طائعة، مقدسة أو مدنسة ، وهي لا تعرف للتوبة بابا أي لا تعرف كيف تتوب ؟ أو لا تعرف للتوبة طريقا …و هذا ليس من باب المعاندة أو الإصرار على الذنب أو الجهل بأدبيات التوبة . و إنما من باب الإيمان بأنها بعيدة عن مواضع الخطيئة . و هناك محدد ثالث لهوية المهدى إليها : ” لا تعرف للشهقة عبابا ” و هنا تضاعف الكاتبة غموض و لبس هذه الهوية ، إنها في حالة احتضار أو انتصار ، في حالة ضعف أو قوة ، إذ من معاني ” شهق ” تردد النفس في حلق صاحبه و أن يسمع له صوت مثل شهقة المحتضر . إن الكاتبة في إهدائها تنفي عنها ما يوحي باحتضارها تلميحا إلى قوتها و صبرها ..
إن المهدى إليها حاضرة غائبة ، قريبة بعيدة، منفصلة متصلة . وفي الجزء الثاني من الإهداء ، تتحدد هوية المهدى إليها ” إليك يا نقطة مني ” هنا يتأكد الاتصال و القرب و العلاقة النوعية بين الكاتبة و المهدى إليها . هكذا يصبح جسد و كيان الكاتبة مدفنا لحروف الغائبة الحاضرة ، إنها الأنا الثانية للكاتبة ، أناها التي صادر الآخر حقوقها و ضيق من مجال حريتها و أقبر أحلامها و آمالها و ضاعف أحزانها …
المقتبسات:
من بين مقتبسات هذه المجموعة مقتبسان :
الأول : خبر مروي عن أبي الدرداء ، يتمحور حول فكرة الترويح عن النفس و السعي إلى تجنيبها أسباب السأم و الملل . و هذا شأن طبيعي يلائم الوجود الإنساني من حيث أهمية المرح و الترفيه سعيا إلى تجديد العزيمة و شحذ الهمة . لأن الحياة لا تقوم فقط على الجد و العمل فقط بل هناك آثار سلبية تسبب الرتابة. و توظيف هذا المقتبس بعيد عن التوظيف الديني، لكنه قريب من السياق الفني والأدبي . إذ الكتابة و التعبير الفني نشاطان للترويح عن النفس و تفريغ ما ران على القلوب من هموم و غموم و استجلاء الآلام الذاتية و العذابات المقررة على مستوى الحياة الشخصية و تحريرها من ثقل ذلك . الإبداع لعب ، واللعب ترفيه و ترويح . و بالتالي فالكتابة في هذه المجموعة جاءت ترفيها و ترويحا عن النفس و سعت من خلالها الكاتبة أن تكون علاجا و استشفاء كما هو الشأن فيما يخص القراءة.
الثاني : إذا كان المقتبس الأول معروف المصدر من جهة قائله ، حيث المروي عنه شخصية تراثية، فإن الثاني مغمور . و الراجح أنه بعض الأثر ، و يشاطر الأول في نفس المضمون أي إراحة النفوس و تليينها من أجل تجنيبها الصدأ . و الصدأ هنا على سبيل المشابهة، إذ مثلما يصدأ الحديد تصدا النفوس. و صدأ الحديد طبقة تعلوه و تحدث نتيجة اتحاد هذا المعدن بأكسجين الهواء. إنه مثل الكدرة التي تعلو المعادن فتحدث فيها تشويها واختلالا في تركيبها الكيميائي و الوظيفي أو الاستعمالي . و إذا كان الأمر كذلك ، فكيف تصدأ النفوس أو تتأكسد ؟ إنه بالأوساخ المعنوية من ذنوب و خطايا و هموم و معاناة و رتابة و سأم . و مثلما فكر الإنسان في كيفية محاربة صدأ المعادن فكر أيضا في إزالة صدأ النفوس، و ذلك بالترويح و الترفيه و البحث عن أسباب الفرح و الاستجمام.
التقديم :
توسل التقديم ضمير المتكلم في التعبير و تصريف القول ، ولهذا الأمر دلالته ، و يتركب من أربع فقرات تنتظم حول نواة دلالية مركزية : كتابة الذات أي التقاط ما سقط منها أو عنها من أحلام و آمال و رغبات مجهضة أو مكبوتة . الذات هنا تكتب تجاربها ووقائعها ، إخفاقاتها و نجاحاتها ، كتابة غربتها وألفتها . كتابة انتشائها و ندمها . و كتابة الذات هنا تعني كتابة السقوط و هو نوعان :
سقوط علني جهور و سقوط سري كتوم ، الأول سقوط أمام الناس علنا والثاني أمام النفس سرا . وفرق واضح أن تعي سقوطك علانية أو سقوطك سرا. وأغلب النصوص الواردة في المجموعة تقترن بالسقوط . لقد عاشت الكاتبة أو عايشت حالات السقوط وصفا و اعترافا، أي سقوطا ذاتيا أو سقوطا غيريا . و لعل أكثر الحالات الوجودية التي انتظمت مختلف الوقائع المسرودة كانت : الحب، المرض، الانتصار، الحلم، الذكريات، الطفولة، المدرسة….
الوعي بالسقوط وانحسار المواجهة :
تأسست أغلب النصوص القصصية عند الكاتبة على تيمة السقوط ، أي سقوط الذات أو سقوط ذوات أخرى . فأغلب الشخصيات القصصية عاشت تجارب في السقوط، مما أسس للبناء القصصي عامة في هذه المجموعة منطقا سرديا أساسيا:
تجربة السقوط تنجم عنها انفعالات متباينة تنتهي بالبكاء فتكون الدموع ……
فما هي مظاهر السقوط ؟ و كيف تنوعت الانفعالات المترتبة عنه ؟
يمكن أن نتخذ بعض النصوص نماذج للتمثيل ، نستشف منها هذا المنطق البنائي :
في قصة ” نزيف بلوري ” يحكى في القصة على لسان السارد إحساس أب عجز عن إنقاذ ابنته أو كان سببا في موتها و لو معنويا . و هذا العجز تولد عنه ندم نفسي داخلي شبيه بالورم قتل فيه كل أمل و هذا مظهر من مظاهر السقوط الذي خلف انفعالا شديدا تمثل في الندم مما أدى إلى نزيف داخلي لا تراه الشخصية إلا عند رؤية صورتها في المرآة .
و في قصة “جهل دافق ” تحكي الساردة سقوطها أمام رغبتها البسيطة و الموحية أيضا . حيث كانت ترغب و هي طفلة في صباغة لأصابع يدها، و كيف قمعت الأم بجهلها تلك الرغبة بدعك أصابع بنتها. و لقد مثلت القصة هنا مظهرين من مظاهر السقوط: سقوط البنت أمام سلطة الأم من جهة ثم سقوط البنت أمام رغبتها بعدم تحقيقها. بينما في قصة ” إعادة تمثيل لجريمة ” هناك تجسيد لسقوط البنت أمام سلطة الأب من خلال عجزها عن مواجهة سلطته و جبروته. حيث كان يستجيب لنزواته الجنسية بصرف ابنته بعيدا عن محل عمله حتى يقضي وطره. هذا العجز / السقوط شكل عاهة في نفسية ابنته و دفعها إلى التفكير في الانتقام لأجل أمها، غير أن تدخل القدر كان كافيا لأن تعدل البنت عن فكرة الانتقام أي قتل عشيقة الأب. و يلاحظ القارئ في قصة ” سذاجة حبر ” سقوطا معنويا أمام سلطة و بطش زوج من خلال انفعالات مفتعلة و من خلال لغة خشبية مسكونة ببطش ذكوري و هوس فحولي. و تقارن الساردة هنا بين لغة العاشق و لغة الزوج / البعل . لغة الأول لغة حالمة طوباوية لينة شاعرة ، و لغة الثاني لغة قاسية قامعة عنيفة صادمة ، آمرة ناهية ، و تلجا الذات هنا إلى طريقة لمواجهة ذلك الواقع و رد الاعتبار للذات بعد ذلك الانكسار . تمثلت في كتابة سيناريو أو تخييل أو قصة تعاقب فيها الزوج عقابا شديدا و تلقي به في سوء المصير . و في قصة ” سعال ” تسقط الساردة أمام ذاتها من خلال تجربة الانتظار، حيث تكاتب عشيقها الغائب الحاضر، و تدون لائحة طلباتها / رغباتها، و تتزين وفق ما كان يرغب أن تكون عليه و تتخيل قدومه كفارس لكن دون جدوى. و الكتابة هنا ترميم للنفس و صيانة للذات . و في قصة ” غياب ” ترصد الساردة تجربة أخرى من تجارب العشق التي عاشتها، حيث غالبا ما يتخلى العاشق أو من كان يدعي الصبابة وصدق الهوى، و يترك المرأة المعشوقة بين قسوة الغياب و سطوة الحضور. و هنا تقف الساردة بالباب صدفة لتشاهد عشيقها غريمها رفقة امرأة أخرى، فاخذ المشهد بذهنها و خلخل كيانها و أعاد لها الزمن في لقطة أو مشهد مأساوي، و كانت أن تهاوت في الأخير أمام ذاتها.
في قصة ” ضربة سدى ” تتأسس الحكاية فيها وفق لعبتين :
لعبة التذكر ، حيث تتذكر الساردة كيف كانت تشاكس جدتها في عملها ” نسيجها ” و كيف كانت ردود فعل الجدة بعيدة عن أي انفعال أو توتر ، إذ كانت تجازيها عن مشاكستها بقبلة أو قبلتين .
لعبة المشابهة أو المقايسة : الحياة شبيهة بمنسج جدة الساردة ، وتعتقد إنها قادرة على نسج الخيوط و عقدها و ربطها و قطعها وفق منطق الحياكة أو النسيج . لكن القدر أو الغيب هم من أصبح يشاكس الساردة في نسيجها، و كلما حاولت الساردة فك و حل ما ليس فيه تناسب و منفعة عجزت عن ذلك. إنه سقوط الذات أما القدر .
و في قصة ” كمنجة الحلم” : يسرد الراوي كيف تحطم حلمه لحظة تحطيم الأب كمنجته .و ما خلفه ذلك الفعل من آثار نفسية عميقة.
هذه بعض النصوص التي يتمظهر فيها السقوط كسبب لانفعالات الذوات، و هذا ما سيترتب عليه البكاء و بالتالي إسقاط الدموع . في حالة استجابة الجسد و تأثره و انفعالاته . أما في حالة الكتابة فيتخذ البكاء أو الانفعال مظهرا آخر : كتابة نصوص أو قصص توثيقا من جهة لذلك و تحريرا للجسد من ثقل الآثار المترتبة عن كثرة الانكسارات و التصدعات و تخفيفا للذاكرة .
و يلاحظ القارئ أن أغلب نصوص المجموعة تنتظم حول حقل السقوط ، و الذي يبين ذلك حضور لفظة السقوط بصيغ مختلفة:
– المرآة تتساقط قشورها …ص 7 .
-تساقطت دموع الورقة ….ص9.
– كلما سقطت من قنينة الطلاء ….ص 10
– أسقط كل ليلة …ص 13 .
– تسقط سهوا كلمة طفل …ص 25 .
– سقطت ركائز البناية …. ص 27 .
– سقطت عنه السخرية .. ص 51 .أقول أعتذر فتسقط دموعي ….ص 80 …..
إن مدار السرد يستند إلى فعل السقوط، و هو فعل حاضر في مختلف النصوص إن لم نقل أغلبها. والسقوط هنا هو بؤرة السرد في هذا العمل ككل. و يلاحظ هنا أيضا اختلاف فاعل الإسقاط و تنوعه، حيث أحيانا تكون الذات هي الفاعل ، و أحايين أخرى يكون الآخر و الرغبة والحلم والواقع و المجتمع و القيم ….
و تؤكد النصوص انحسار مواجهة الذوات المتساقطة أو المسقطة ، حيث لا نلمس صيغا قوية في المواجهة باستثناء الكتابة و التعبير الفني . وهذا ما يؤكد اختيار الكتابة كصيغة للمواجهة وإعادة الاعتبار للذات .
المواجهة بالكتابة:
إن كتابة السقوط في المجموعة هي مظهر من مظاهر التعبير عن الإعاقة المعنوية التي لا زالت المرأة العربية عامة و المغربية خاصة تعانيها. وهذا ما تستجليه النصوص والوقائع المسرودة كتجارب لم تتلق فيها هذه الذوات أي سند أو دعم معنوي إلا دعم ذاتها بذاتها و الاعتماد على منابع القوة في ضعفها . هكذا تبين هذه المجموعة أن المرأة ذات غير مكتملة، ذات مكسورة، ذات تعيش الحاجة إلى الآخر ( الأب، الزوج ، العاشق …) و النقص هنا ليس مذمة أو عيبا . لكنه واقع يفرض أولا الوعي به ثم التفكير في حلول أو صيغ لتجاوزه.
إن كتابة السقوط كتابة للبعثرة التي تعيشها المرأة هي محاولة لتوثيق الذات في محطات من عمرها الوجودي ( الطفولة ، المدرسة ، المدينة ، ) ثم في علاقاتها مع الآخر : الأب ، ألأم ، الأستاذ ، العاشق ، المجتمع ، الهامش …و توثيق أيضا لحالاتها الوجودية العزوبة، الزواج ، الطلاق .
الكتابة في هذه الأضمومة القصصية جسر للعبور من حالات الانفعال بالسقوط إلى حالة الوعي و كتابته .
دموع باردة : هي كتابة المعاناة أو الأحزان ، أي ما يحزن المرأة و يضاعف شجونها . و هذا ما أكدته النصوص و الوقائع في هذا العمل الفني . و الملاحظ هنا هو غياب مظاهر الفرح في العوالم المسرودة .
خاتمة:
لقد تأسست المجموعة القصصية عند القاصة السعدية الفاتحي من خلال فعلين مركزيين:
أسقط و اكتب …أي أن السقوط سبب كاف للكتابة . و الكتابة شكل من أشكال المواجهة . كما أن التخييل القصصي هنا صيغة من صيغ الاستجمام و الترفيه عن النفس مادام الواقع الاجتماعي بمختلف مكوناته لم يتحرر بشكل كاف من رؤيته التقليدية للمرأة . وإذا كان الشاعر نزار قباني في قصيدته محتاج إلى امرأة تعلمه الحزن فإن الذات هنا تبحث عما يخفف عنها ذلك .
و إذا كانت المرأة العربية في وجودها موضوعا إشكاليا، يثير الأسئلة اجتماعيا و سياسيا و فكريا ، فإن البعد الإشكالي صاحب تجربتها الإبداعية و هذا يتبين من خلال الأسئلة التي أثارها الأدب النسائي . و إذا كان التلقي العربي قد ألف النظر إلى المرأة عامة موضوعا في الإبداع أو موضوعا يفكر فيه ، فإنها في تجربة الكتابة الإبداعية قصة أو رواية أو شعرا، غدت فاعلا و منتجة للكتابة و بالتالي بدأ الأمر يتأسس على كتابة ذاتها و أخذ ت الأسئلة آفاقا مغايرة . وهذه أول الخطوات في مسلسل التحرير و الانعتاق من هيمنة المتخيل الذكوري.