كاتب التاريخ الأعمى
يقولون إن كاتبَ التاريخ
كان أعمى
وأنه الوحيد، في زمانه،
الذي تعلـَّم الأبجدية
وأن الصبيان
والمجاذيب
وقطاع الطرق
كانوا يتبادلون سحبَه
وإطعامَه
ويُملون عليه؛ فيكتب
* * *
يقولون إنه كان مبصرًا
كان يرى
وإنه كان يهوى التحديق
في الضوء
في السماء .. في النجوم
في الشموع، بالليل
وذات يوم
أغراه كسوفُ الشمس
بالنظر طويلًا
في قرصها المحتجب
حتى ذاب بصرُه
في سوادها الكاذب
* * *
كنت كلما قرأتُ التاريخ
تذكرتُ حكاية كاتبه
ونوادرَه
وأضحك!
قالوا إنه كان خفيفَ الظل
ينادم الملوك
والأمراء
والأثرياء
يداعبهم .. ويحكي لهم ما كتبه
عمن سبقوهم ومَن جاوَروهم
وهم يغدقون عليه العطايا
ويملون عليه من الوصايا
ويمنّون أنفسهم
بصفحات من الأساطير
والبطولات
والحكايا
وهو يَعِد .. ويُقسِم
ثم يحنث، ويحنث، ويحنث
* * *
حكوا أنه طاف البلاد
كلما اغتنت أرضٌ ارتحل إليها
عاش كصعلوك متسكع
تارة
وتارة
كوجيه متأنق..
أينما تحركت شهوته، يروح
للدم
للمال
للإثارة
* * *
يذكرون أنه لم يبكِ قط
وهو يكتب
عن الهزائم والخيانات
والنيران والمذابح
والدماء والجثث
وكنت أظن
بأن العين الصادقة
لا يهجرها الدمع
وأن البكاء حياة العين
وأن العين التي لا تبكي
ميتة
* * *
مريدوه كلهم ورثوا العمى!
يقولون إن الدرس الأول
للتلاميذ
كان مديحـًا في الطاعة
والدرس الثاني
أمرًا بالنظر إلى الشمس
والثالث
تهديدًا .. ووعيدًا
بأن العاصي سوف يُجَنَُ
وكلهم فضّلوا العمى
على الجنون
* * *
قال معلم الفلسفة
إن ميلاده
_ كاتب التاريخ _
كان بشارة للإنسانية
بالخلود
وقال شيخ الطريقة
إنه نذير
بقرب القيامة
وقال الثوري .. السجين
بأنه وعد بالحرية
وأنه سيحمل ميزان عدل
وسيفـًا
يرهب طاغيةً
وينصف أبرياءً
ويحتفي بالحق
والأوطان..
* * *
وأنا يشغلني مصير الرجل
يقولون مات
وهل كان حيـًا؟!
ففي كل شبر من الأرض
وفي البيوت،
حيث الحياة
حيث يقيم التاريخ، نفسه
بحثت عن الكاتب لم أجده
ولا أثر
وعلى الرفوف، بين الصفحات
حبرٌ منسكب
يرسم عينـًا
كفيفة
وابتسامة .. ساخرة!