حوار مع الشاعر والكاتب والمترجم جمال الجلاصي
حاورته: شامة درويش
يبدأ الإنسان التجريب بدءا بذاته، كقطعة تائهة من تاريخ منسيّ، ليشكّل من ذاته طاقة متجدّدة، وحدها النّار تقدّم جزءا منّا قربانا للكون في شكل حروف، لتشعر بالخلاص الأبديّ، لأنّ الشعر لم يعد يقع خارج أسئلة الفلاسفة وتأمّلاتهم القصوى حول جدوى الحياة.(ش/د)
جمال الجلاصي كاتب وشاعر ومترجم تونسيّ، ولد بمنطقة قليبية في 1 يوليو 1968، درس العلوم القانونية، وعضو الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب، صدر له روايتان: الأوراق المالحة 2004، وباي الغربان 2015، وعديد المجاميع الشعرية: الإقامات 2007، أعشاب اللغة 2010، وترجم العديد من الأشعار العالمية والإفريقية أهمها الأعمال الشعرية الكاملة لليوبولد سيدار سنغور 2014، له عديد المشاركات والجوائز.
1. بعض الأشياء كالثقوب السوداء، تمتصّ حياتك ولا تعطيك شيئا، هل الكتابة ثقب أسود؟
بالعكس الكتابة أرض خصبة تمنحك بقدر ما تعطيها وأكثر، على قدر إخلاصك للكتابة على قدر ما تمنحك حبّاً من القراء، بقدر ما تمنحك كشفاً لخباياها وأسرارها، بقدر ما تمنحك من كشف لذاتك وذوات الآخرين.
2. يعتبر التفكير تبادلا للنّور الذي تنثره العيون على الوجوه، هل يفكّر جمال الجلاصي في مصير نظرة كانت سببا في انْوجاد نصّ؟
النظرة العاشقة لا تمّحي من قلب الشاعر العاشق وروحه، تظلّ أبدً تحرّضه على المحبة والكتابة وعشق الحياة… لذلك فهو يحيا بها ولها…
3. متى يمكن للإنسان رؤية نفسه في المرآة وفي صفحة الماء الصافي دون خوف؟
الصدق أمام الورقة البيضاء، لأنّه تجلي لكل العيون التي ستقرأ نصّك هي والرغبة الحارقة في القول والكشف هي لحظة الشجاعة القصوى عند الكاتب، فلا مجال عندها للمراوغة والتملّق ولا حتى للمجاملة… الكتّاب الكبار الذين سمَوا عن هذه الصغائر خلّدوا نفسهم يصدقهم وإخلاصهم لإبداعهم… لا مجال للاختباء وراء الشقشقة اللغوية ولا البلاغة الزائفة ولا حتى وراء إيقاعات الشعر الساحرة. الإنسان يرى نفسه في مرآة ما يكتب، فينزع قناعه ليتجلّى الإبداع لديه وحياً صرفاً.
4. هل هناك هويّة صامتة؟ وهل هجاؤنا لأنفسنا ضرب من الانتماء؟
هنالك فرق جوهري بين جلد الذّات والنقد الذاتي، فالأوّل يكون نتيجة عقدة نقص أمام الآخر، بينما النقد الذاتي هو رغبة دائمة في التطور الذي لا يكون بغير كشف عيوبا أمام أنفسنا والمحاولة الدائمة للتخلص من النواقص والحلم الدائم بالكمال.
5. قلت مرّة: ما يدفعني دفعا إلى الكتابة هو الـرغـبـة فـي تـغيير العالم…، هل ابتسمتَ بِصمْت وأنت تغيّره، أم تحرّرت من ذاتك؟
الرغبة في تغيير العالم، هي الحافز الدافع للكتابة، تغيير العالم نحو الأحسن والكشف عن قدرة الإنسان على تغيير نفسه ومحيطة هما الشرطان الأساسيان لوجود إبداع إنساني، يؤمن بالقيم الإنسانية الخالدة – الخير والعدالة والجمال – زهذه القيم هي التي إن خلا منها الدب يتحوّل إلى مجرّد ثرثرة خسارة فيها حتى الورق البيض الذي يكتب عليه… أبتسم أحياناً بصمت أمام فخامة الجملة وضخامة المسؤولية لكنّه قدر لا يمكننا التحرّر منه، لأنّه خيارنا الواعي.
6. لطالما كان لشعراء إفريقيا، مهمّة جليلة طوّقوا أنفسهم بها، ليغنّوا للسّود نشيد الآدمية والإنسانية والمساواة، هل هذا هو الجاذب الأكبر الذي جعلك تترجم أشعارهم؟
تماماً: “مهاناً، مستعبَداً، ينتصب [الأسود]، يلتقط كلمة زنجيّ التي يرمونه بها مثل حجر، يستردّ، بفخر، ذاته كأسود، أمام الأبيض” (جون بول سارتر، “أورفيوس الأسود” ). رغم أنّها وُلِدت، فعليّاً، من المعاناة التي قاساها “الزّنوج”، وعنف المستعمر، وبشكل أوسع من سيطرة العنصر الأبيض، فإنّ الزّنوجة تطرح نفسها نقيضاً لأيّ أطروحة بؤسويّة. لأنّها تُمضي مرسوم رفض، نهائي، فهي إذن، إمكانية كرامة مستعادة: فخر خلّاق يعقُب العار.
الزنوجة هي تعبير عن عرق مضطهد
الزنوجة هي تجلّ لطريقة أن تكون أصيلا
كان من الضروري التخلص من الملابس المقترضة، أي من الاستلاب.
الزنوجة هي أداة للصراع
إنها أداة التحرير الفعالة.
الزنوجة أداة جمالية
7. أعتقد أنّ منعرج التحوّل عند جمال الجلاصي هو ترجمة أعمال الشاعر السنغالي ليوبولد سنغور Léopold Sédar Senghor، وروايات أخرى لكتاب أفارقة، هل كانت الترجمة رغبة في إنصاف السود، أم اعترافا بتميّزهم؟
كانت الترجمة محاولة لتحويل بوصلة اهتمام القارئ العربي، نحو المنابع الأولى الحارّة الحارقة للإبداع الإنساني… تلقينا للأسف ثقافة مدرسية ملخصها أن المعرفة والأدب والفلسفة والفن منبعها الغرب والشمال، لكنّي اكتشفت (مؤخراً للأسف) أن أفريقيا، قارتنا، تفور بكل الفنون والثقافات والأساطير والخرافات التي يجعلها خزّانا للإنسان. من هنا جاء اهتمامي إنصافاً واعترافاً. وإثراء للمكتبة العربية بكتّاب كبار أضافوا للمكتبة الإنسانية ما يجعلنا نفخر بالانتماء إليهم.
8. لو أعطيتك اسم كاتب وعنوان كتاب (إيمي سيزير Aimé Césaire) (الأسلحة الخا رقة Les armes miraculeuses ماذا ستقول؟
هذا الديوان يمثّل قمّة النضح الشعري عند إيمي سيزير وتشبعه بالرؤية السوريالية، لا بد من القول إن الجزء الثاني من الديوان كتب بعد الصداقة المتينة التي ربطت إيمي سيزير بأندريه بروتون… يشمل هذه الديوان مجموعة من القصائد التي أعتبرها خطراً على الاطمئنان البشري، خطراً كخطورة الربيع على الحقول الجافة… نصوص مربكة لغة وأسلوباً ومضمونا.
سنضرب الهواءَ الجديدَ برؤوسنا المدرّعة
سنضرب الشّمسَ بأكفّنا المفتوحة على اتّساعها
ستضرب الأرض بالقدم العارية لأصواتنا
ستنام الزّهور الفحلة في جوْن المرايا
وسيعتكف دِرع ثلاثيّة الفصوص ذاتُه
في نصف ضوء الأبديَّةِ
على حناجر مناجم الحليب الرّقيقة المنتفخة
ألن نعبر نحن الرّواق
رواق التهلكة؟
طريق صلب بصفرة خمريّةٍ
فاترٍ
حيث تتقافز جواميس الغضب المستعصي
قصير
يبتلع حافّة الأعاصير النّاضجة
للخيزران الرّنّان
للغروبات الثّريّة
9. هل تعتقد أن مصطلح زنوجة (Négritude) كان محرّكا للمقولات الشعرية ومنها الفلسفية لدى إفريقيا؟
نعم كان، وأكاد أجرؤ على القول ومازال رغم شبه إجماع النقاد على نهاية حركة الزنوج في الأدب في أفريقيا السوداء… اليوم، لم تعد الزنوجة تسحر الحشود لكن لا يمكننا إنكار أهميتها التاريخية. لقد أنجزت المهمة التي حددتها لنفسها وهي: “خلْق، عند إعادة تشكيل الحياة الثقافية بعد الحرب العالمية الثانية، وجودٍ أفريقي مشعّ.” يرتكز الأسلوب الزنجي على استخدام معيّن للصورة وعلى السلطة الكاملة للإيقاع. في أفريقيا، يُنظر إلى الماورائيات باعتبارها في اتحاد مع الطبيعة. الشعر مع علامات تنقيط معبرة، يجب أن نستعيدها في القوام، أو نرافق الآلات الموسيقية الأفريقية.
10. كيف حال المارد داخلك؟ أمازلت تعتصره؟
مازلت نتبادل العصر… يعتصرني… المارد لا يكفّ عن ملاحقتي ولا أكفّ عن استجداء معجزاته وأعاجيبه… ذلك المارد الذي نكتشفه في مرحلة الشباب الأولى فلا نتخلّص منه إلّا مع الموت، لأنّنا ندمن ما يكشفه لنا من ذواتنا ومن ذوات الآخرين.
11. يرفض أدونيس أن يكون للشعر مرجعية، كيف ترى هذه المقولة انطلاقا من ذات الشعر التي تسكنك؟
أقول، لا يمكن للشعر أن يكون دون مرجعية، ودون خلفية، فكرية، لأنّ الشعر عدوة للمنابع وبحث عن آفاق جديدة، الشعر ليس موجة، الشعر شجرة لا يمكن أن يعانق السحاب إلّا بقدر تجذّره في أرضه وفي واقعه، الشعر ابن الواقع والحلم في آن اللحظة.
12. بعد حوالي عشرين عاما، هل مازالت الأوراق مالحة؟
ستظل كذلك شاهداً على مرحلة بأكملها “استغرقت في كتابة هذه الرواية سبعة سنوات كاملة، هي رواية جيلنا، رواية الأحلام الموؤودة، هي رواية تجدّد الأحلام بأكثر واقعية، كشفت فيها أحلامي الروائيّة حيث قلت إنني سأكتب عن علي بن غذاهم عن بورقيبة ومحمد علي الحامي، وهو ما أنا بصدد فعله الآن. الأوراق المالحة أفرغت فيها كل ما عندي من هموم وأحلام وأوهام كسرها الواقع، شخصيات الرواية كانت حقيقية استلهمتها من أبناء جيلي الذين عانوا من ضياع الأحلام، وتبخر فكرة إنشاء حركة إبداعية جديدة قادرة على طرح بدائلها من خلال صراع فكري وثقافي مع الأجيال السابقة في ظل واقع مهترئ. هي أول رواية لي، وقد طبعتها على نفقتي الخاصّة، بعدما عرضتها على أكثر من دار نشر، لكنها كانت تقابل دائما برفض الناشرين، لأن الجرأة على مستوى الكتابة آنذاك كانت تمنع النّاشرين من المغامرة بإصدارها في ظل واقع سياسي فرض رقابة خانقة على الكتاب. غير أنّي تمكنت بتدخل من الكاتب جلول عزّونة في النّهاية من نشرها على نفقتي الخاصة.”
13. بين النثر والشعر، هناك مسافة دهشة، كيف تتعامل مع دهشتين في آن؟
أنا أكتب، هذا فقط ما أعرفه، ليس لديّ أيّ طقوس خاصّة بالشعر أو النثر، النص يختار القالب الذي ينصبّ فيه… ولا أحتاج سوى وسائل الكتابة قلم وورقة، أو حاسوبي التي تعوّدت الكتابة عليه منذ أواسط التّسعينات. أحبّ الكتابة في مقهى النّورس على شاطئ قليبية مدينتي. لكنّ تغيّر الأمكنة واللّيل والنّهار لا يؤثّر فيّ كثيراً. انتقلت بين مدن كثيرة بحكم مهنتي كأستاذ، لكن ذلك كان قادحاً آخر للكتابة، فلكلّ مدينة أجواؤها وعوالمها التي تثري أرواحنا وتهدينا مواضيع وطاقات أخرى للكتابة، أكتب في مقهى شعبيّ وسط ضجيج لاعبي الورق، كما أكتب في مكتبي، أحيانا في الحافلة، أو القطار. الكتابة عندي ليست ترفاً، كي أشترط مكتباً فخماً أو نوعاً معيّنا من الورق، إنها ضرورة حياة