حوار مع لجنة البوكر العربية (2 ) ضياع الرواية في بنية الحكايات ( التانكي ) السرد المجهول و البناء المعقد
ياليت جور بني مروان دام لنا وليت حكم بني العباس في النار
(ص٧٣)
هذا ماقاله في العصر العباسي الشاعر أفلح بن يسار السندي (ت ١٨٠هـ ) في تلخيص لصراع مذهبي حدث منذ ١٢٤٠ عاماً، ثم أعيد الاستشهاد به ثانية في رواية في هذا القرن تحاول أن تصور طبيعة الصراع الذي يجري في العراق الآن ، وكأننا نفسر المعاصرة بالتاريخ في فهم لم يستطع كاتب الرواية – التي سنأتي على تحليلها – أن يتخلص منه ، وخلاصته أن التاريخ يصبح شفرة في صراع الحاضر – وكأن مسببات هذا الصراع تاريخية فقط وليست اقتصادية أوفكرية أومصالح اجتماعية أوطبقية أوسياسية عالمية. يفهم لوسيان كولدمان الرواية على أساس تحولات البنى الاجتماعية أولاً كون الروائي يمثل وعي الطبقة أو الفئة او الجماعة التي ينتمي لها ، ولهذا يفرق بين وعيين:
١- الوعي القائم
٢- الوعي الممكن.
ومن أجل إيجاد أوجه التشاكل بين البنية النصية والبنية الذهنية للطبقة أو الفئة الاجتماعية التي يتمثلها النص، لابد أن نفهم البنى السوسيولوجية من خلال دعامتين أساسيتين وهما الفهم comprehension والشرح explication حيث يعنى المصطلح الأول (الفهم) بالبنية النصيه أي دراسة النص بنائياً من داخل العمل النصي بما يعني (التحليل الداخلي) ، بينما يعنى المصطلح الثاني (الشرح) بربط استنتاجاتنا حول البنية الكلية بما هو اجتماعي يتمظهر في النص ذاته بما يعني ( الشرح الخارجي ) وكأننا نصوغ العمليتين بالطريقة التالية:.
الفهم ــــــــــ داخل نصي الشرح ـــــــــ خارج اجتماعي
ومن خلال هذه العلاقة بين تلكما الدعامتين يظهر مصطلح ( رؤية العالم ) متمثلاً في الرواية تحديداً ،إذ لاتعتبر الوقائع فعلاً فردياً أو خاصاً بل هي تشكلات لحركة المجتمع ورؤيتة الدلالية على مستوى التماثل في فكر الطبقة أو الفئة الاجتماعية التي يمثلها ذلك النص .
المفهوم التاريخي وفي ضوء ذلك فإن السارد في رواية ( التانكي) التي هي موضوع دراستنا للروائية عالية ممدوح أراد أن يتبنى المفهوم التاريخي للواقعة في الاستشهاد بنص شعري قيل قبل 1240 عاماً، ومايماثله سردياً في رصده لحاضر يعيش صراعات التاريخي ذاته في تمثله لفكر بنى اجتماعية تستعيد فكر التاريخ في صراع الحاضر ، متمثلة بقناعات الاستشهاد بالبيت الشعري من العصر الإسلامي الثاني ، وكان على السارد أن ينظر من زاوية تبئيرية أخرى لبنية هذا الصراع ، في إمكانية استيعاب جدلية الوعي القائم و لإيجاد حلول في الوعي الممكن بما يمكن ان يحدث مستقبلا. الرواية تجعل ( التانكي) ( خزان عمومي كبير يوضع بارتفاعات عالية جداً كي يغذي المنطقة التي يتواجد فيها بالماء ) ليكون مدلولاً في الواقع ، وكان من المفروض أن يكون دالاً في الرواية ، أي أنه لايملك معنى في النص الروائي ، يمكن تأويله باتجاه نستعين به لفهم المعنى :
(دكتور هذه مجرد حكايات من شارع التانكي ) ص٨٦ ، و ( شارع التانكي وسط الصليخ الجواني ) ص٣١ .
هنا نفهم أن التسمية مكانية لا دلالة لها ، والمكان هو منطقة الحكايات ، وأن الرواية هي مجموعة حكايات لم تتشكل في نسق جمعي يربطها ببعض ، سوى أنها وقعت في هذا الشارع الذي لم يتفرد بذاته ولم يصبح مؤثراً في الحكايات .
حكايات مبعثرة الحكايات متعددة الساردين، وهذا يخلق بالضرورة تقطيعاً سردياً وتعددا حكائيا ، غير أنه لم يخلق اختلافاً أسلوبياً ، أي أن الرواية كتبت بأسلوب سردي واحد لم يتغير مطلقا ، وبعناصر متعددة من الساردين وهذا مايجعلها تبتعد عن البناء العضوي المتجانس . اذا مالذي يحصل؟ مادام المؤلف يريدها كتلاً من حكايات مبعثرة باعترافه لذا كان الحل الأكثر تجانساً أن يهرب باتجاه توصيفات غير حكائية ، وهذا ما يطلق عليه نقاد الرواية المحدثون ب( الميتا سرد) أي بعبارة أبسط ما وراء الرواية ، بدون وعي بنائي و باعتباطيه تماماً، من أجل خلق حكايتين أو أكثر ، إحداهما داخل الأخرى ، الأولى حكاية المؤلف ، والثانية الداخلية أو التحتية هي حكاية لمؤلف آخر، وهذا لم تحققه الروائية، أي يمكن اعتبار النص الأكبر الضام هو رواية المؤلف ، والنص التحتي هو رواية السارد ، لذا يمكن القول: إن هذا أهم عنصر في هذه الرواية وهو بناء إشكالي استطاعت من خلاله الروائية أن تبرر تنقلاتها الحكائية من قصة لأخرى ، بما يتيح لها أن تتقدم سردياً في روايتها حتى اللانهاية لها غير أنها أفقدتها عنصر التماسك . في الجانب السردي .. هذا البناء جعلها غير ملزمة بخط حكائي متسلسل ( كورنولوجي ) تراكمي ( أي المحور التعاقبي من محورين وهما ( الزمني والتزامني ) كما طرحهما ياكوبسن . حسناً لا أريد أن أدخل في هذه المتاهة النظرية لأبقى معكم في البناء السردي والوصفي الذي هو نتاج تفكك الرواية بنائياً وهو : إن حركه سرد ووصف الرواية يتشكلان من آخر كلمة في أي مقطع فيها حيث يتحول ( المعنى / المسار ) إلى نقلة أخرى وموضوع آخر : يقول السارد مختار ( لم اعمل في المحاماة وإنما في البريد المركزي الكائن في الباب الشرقي ، (وصف ١- ) أنا أفضل تلك الحارات الضيقة المتعرجة ، السواقي ذاتها في الوسط ، المليئة بالوسخ وبقايا الشاي والطعام البائت والتي تأخذني للبيوت المتلاصقة ببعضها البعض بشبابيكها المفتوحة والمطلة على الشوارع ، ( النقلة ٢- ) فتظهر العمارات والمقاهي والمحلات والنساء بمناماتهن المنزلية ، ( النقلة ٣- ) ………) نلاحظ الانتقال الوصفي حصل في ٣ مواقع وهي ( ١- الباب الشرقي (وصف) ، ٢- المطلة على الشارع (وصف) ، ٣- بمناماتهن المنزلية (وصف) وتتكرر تلك الطريقة في الرواية كلها . وتستمر الانتقالات اللاسردية الشبيهة بالتداعيات اللاضرورية أي الاعتباطية في الشعر، ومايمكن أن تصنف تحت تسمية الوحدات الواصفة التي تبحث عن تسريد ، ثم ينتقل السارد إلى ( الأغاني التي تطلقها ربات البيوت ) . هكذا هي بنية السرد ، متداخلة تماماً في رواية (التانكي) وعليه ضاعت بنية الحكاية في انتقالات متلاحقة متغيرة لكل ما تقع عينا السارد عليه بتفكك الحكاية الذي قاد إلى سرد غير متجانس ، بمعنى أن هذا الانتقال المفاجئ لم يغير من حركة السرد وبنية الرواية .
تاريخ المكان حسناً في الصفحات الأولى للرواية استعراض لتاريخ المكان من دون أن يصبح دالاً على فعل كالمدلول الأول ( التانكي) حيث يذهب السارد إلى : ((الملك فيصل الأول / عبدالرزاق الحسني / عبد المحسن السعدون / الفرنسيون الكاثوليك / الإمام أبو حنيفة النعمان / اليسوعيون الأميركان / الآباء اليسوعيون الفاذرية / المدرسون الأميركان الأفندية المسترية / المدرسون العراقيون)) / ص٢٩ وفي هذا التسريد الآخر ( تاريخ بغداد ) انتقالات زمانية لاعلاقة لها ( أو لأكثرها ) بالبنية المكانية التي اشتغلت عليها الرواية . ولنفترض جدلاً أن الأحداث في صراعها المفقود تتحرك سردياً، وتتحرك معها الأشياء الموصوفة والمستعادة تاريخيا ، وهي بمثابة بانوراما تكشف الفضاء الذي تعيش به الشخصيات ، فهذا يعني أن السارد يقدم الفضاء ويحجب الشخصيات والصراع والروابط والعلاقات بين الشخوص ، وهذا ماجعل الرواية لم تقدم حكايتها الأساسية ، لهذا استقرت في حكايات ثانوية مبعثرة.
حكايات متناثرة
كل ذلك لكي نبرهن على أن (التانكي) ليست رواية وإنما هي حكايات متناثرة، أبطالها بلا ملامح وهي تسير بشكل غير تعاقبي ، ولذا نجد أن لا رابط يربطها ببعض سوى توجه الخطاب ، كما يلاحظ ذلك في خطاب صميم المتوجه إلى الفرنسي الدكتور ( كارل فالينو).:
(ـ مادمت ستدون كل شيء، أعني أهل بيتك والشوارع، فانك سوف تكتب عن الاحتلال بطريقتك أنت .. لكنني تعبت يادكتور) ص٧٢ لاحظ توجهات الخطاب في أحد فصول الرواية :
صميم __________ مختار _____ الدكتور
الرواية السارد الرواية
الضامة المضمومة
تتحول الرواية إلى صيغ إخبارية عن شخوصها ، ومثالنا الأوضح ماحصل للعم مختار الذي تزوج من ثلاث نساء ص١١٠ حتى ص١١٢ وهن :
١- السيدة ناهدة ابنة الحسب والنسب.
٢- السيدة فضيلة مديرة متوسطة النعمان.
٣- السيدة ناجيه (أم الذهب) ذات الأصول العثمانية.
بالإضافة إلى زواجه من نفسه ( كونه يمارس العادة السرية) ، وكأني بالرواية قد قدمت شخوصاً مأزومة لارابط بينها سوى القرابة الدموية أو المكانية ، ولاصراع بينها مطلقاً سوى كونهم يمتلكون أفعالاً خاصة ، ولهذا أقول إنها رواية (اذا صح التعبير تجابه ذاتها لا العالم فلم تحاول كشفه ) .
هل هي رواية مذكرات ؟ من المهم القول إن رواية المذكرات لها مساحة وافرة من الحديث عن ماضي شخوصها الذين يرتبطون بعلاقات عضويه تحكمها سياقات الحكايات التي يتقمصها شخص واحد (( استخدم هنا تسمية شخوص تجاوزا لأنها لا تتوفر على السمات التي تتميز بها الشخوص الروائية كما طرحها نقاد الرواية البارزون من مثل لوكاتش)) هو السارد بطل المذكرات . هنا في ( التانكي) تضيع الشخوص في زمن واحد هو الماضي ، إذ لاحاضر في الرواية ، وبذلك نبتعد عن زمن بؤرة الصراع المفترض.
مجتمع الرواية تتعدد الشخوص في عائلة أيوب آل الذين يشكلون مجتمع الرواية وهم : الشخوص داخل الإطار : الأخوات // مكية و فتحية و سنية وعفاف (ابنة أيوب ) و بيبي فاطم (الوالدة الأم كما يصفها أيوب وهي الجدة)
الرجال // أيوب ومختار ( أخ أيوب وعم هلال وعفاف) وهلال (ابن أيوب البكر ). الشخوص خارج الإطار : صميم زوج طرب (صديقة عفاف ) والمعماري معاذ الآلوسي و الدكتور كارل فالينو (الطبيب الفرنسي المخاطب بالسرد ) . وكلهم مأزومون: عفاف مصابة بانفصام الشخصية و مختار المحامي الباحث عن العاهرات، وبيبي فاطم و الأم مكية بعجزهما، وكل هؤلاء لا صراع بينهم مطلقا. وضمن هذا التشعب المهلك اللامفهوم في الحكايات وعلاقات الشخوص وغياب الحبكة وصراعها، نجد السارد يتحدث عن الفن التشكيلي العراقي ، وحتى هذا الحديث يفقد وضوحه المعرفي تماما عندما :
١- يقارن بالمشابهة بين إبداع التشكيلي العالمي (فايق حسن) مع طباخ يطهو طبخة واحدة طول حياته ولايعرف غيرها .. هذه المشابهة لاتبدو حكماً نقدياً سليماً ، بل فيها الكثير من التسفية اللامبرر والتعريض بأحد أهم رموز الحركة التشكيلية العراقية من خلال لغة إنشائية لا فنية فيها.
٢- شتيمة الفن التشكيلي العراقي بشخصية فايق حسن الذي تقول فيه مقارنة بإحدى شخصياتها وهي (عفاف) وذلك في رسالتها للدكتور : (أخبرتها دكتور بعد إذنك أنك على دراية تامة بإشكالية الإبداع أكثر من أستاذها فايق حسن في أكاديمية الفنون الجميلة) ص١٣٩ ومن خلال هذه المقاطع نجد أن بنية خطاب الرواية قد بنيت بضمير المخاطب والغائب ويقل ضمير المتكلم بشكل ملحوظ ، في الوقت الذي انحسر إلى حد بعيد استخدام ضمير المخاطب في الرواية العالمية هذا بالإضافة إلى غلبة التوصيف للماضي البعيد ، وانحسار السرد الذاتي في الحاضر والمستقبل ، كما ان الإخبار عن حال الشخوص هو الغالب عادة .
حركة مجتمع أراد السارد أن يفتح موضوعته على حركة مجتمع ، وعلى علاقته كي يهرب من الخاص/الفردي باتجاه البنية السوسيولوجيه/العام ، فإذا به يجد سرده وقد وقع في الخاص الموزع ثانية ، كان الفردي – لو اشتغل عليه السارد – لاستطاع أن يمسك جوانب النص كتلة واحدة، لكن بهذا الهروب إلى الخاص الموزع على شخوص كثر ضاعت صورة الرواية فبدت بوجوه متعددة . كل هذا جعل السارد يذهب إلى سرد خارجي وآخر داخلي ، الخارجي مايشير إلى هذا التوزيع العام في الشخوص الذين لايستطيع القارئ حقاً أن يمسك طبيعة العلاقات فيما بينهم، لأن السارد تناولهم موزعين فما أن يمسك شخصا منهم حتى يعجز عن تتبعه فيذهب إلى الآخر، وهكذا تحولت الرواية إلى أجزاء متناثرة من حكايات مبعثرة لا رابط بينها. وكل ماتعانيه هذه الرواية هو التقطيع المتوالي المتداخل للسرد (انظر ص٢١ و ص٢٢) ولهذا قد نلجأ إلى مبرر غير مقنع ((كما أشرنا إلى ذلك))وهو أن نعد هكذا روايات بالسرد الماورائي أو الرواية الماورائية أو بالسرد الواعي بذاته بحسب باتريشيا ووه في كتابها عن (التخييل السردي الواعي بذاته .. النظرية والممارسة ، ترجمة السيد إمام). ولكي لايعتبر البعض أن رواية التانكي كتابة تخيلية حول علاقة المتخيل بالواقع نقول: إن (التانكي ) حكايات واقعيه لم ينشيء السارد علاقات موضوعية بينها ، فظلت عائمة في مياه مشتتة يقذفها التانكي إلى بيوت لاملامح لها داخل الرواية. حسناً كان بإمكان السارد أن يربط المسارب الذاهبة من التانكي المعلق إلى بيوتات شارعه بحكاية مركزيه تدور حولها شخوص هذا الشارع كما فعل الروائي الفرنسي ميشيل بوتور في (عمارة نيس) ، حيت اشتغل بوتور على موضوعة صراعية في مكان توزعت في ضوئه فصول الرواية.
كسر الإطار إن كسر الإطار الذي حاول السارد خلقه أوقع الرواية في أطر كثيرة، حتى وكأنني أشير إلى أن أي قارئ لايستطيع أن يفهم الحكاية المركزية في هذه الرواية، وكل ذلك يأتي بما يطلق عليه (سرديات مابعد الحداثة) التي لم يفهمها الكثيرون فوقعوا في إشكالياتها التطبيقية . وللإشارة الضرورية ، فإنني لا أجد في هذه الرواية مايجعلها فعلاً نصياً حداثياً ، حتى لو ذهبت بعيداً إلى ماوراء الرواية (الميتافكشن) الذي سوف تدعيه حتماً ، لأقول: هنا لا أعتقد أننا نصل معها إلى شيء يمكن من خلاله الاستدلال على بؤرة الصراع ، وهذا نحسه بسبب الوهم الذي وقع فيه الروائي في هذه الرواية (التانكي) بالاقتراب من أسلوب السرد الواعي بذاته ، لهذا فقدت الرواية خصائص هذا الفن الخلاق، فذهبت متعثرة إلى الماضي البعيد لتفسير الماضي القريب، وقد نسأل: هل قدمت الرواية تماثلاً بين النص (لكونه مفككاً) والواقع (كونه متشظياً) ؟. وكل ذلك يأتي على أساس تأويل الواقعي عبر الفهم بوصفه أداة لقراءة البنية الذهنية للمجتمع . ولكنه ( أقصد النص) قد وقع في إشكالية المماثلة التي أفقدته الوحدة العضوية للرواية . أعتقد هذا مالم تستطع الرواية أن تتوصل إليه لأنها انتهت كحكايات مبعثرة ، وهذا ماجعل أيضاً البنية النصية لاتماثل الواقع ببنيته السوسيولوجية التي أرادت تصويره .