ريتا الحكيم/سوريا
حكاية لم تبدأ بعد
———————-
وجدتُ نفسي بين عُمرَينِ عقليَينِ متفاوتَينِ في محاكاة الأمور، أحدهما يشدُّني إلى طفلةٍ علا صراخها لا لشيء محدَّد، فقط كانت تريد الخلاص من جوف معتم، والآخر يزحف منتشيًا بعجزي وأنا ضمن حيِّزٍ ضيِّقٍ، بالكاد يتَّسع لجسدي النَّحيل.
الزَّمن افترس اللحم، وترك العظام تخشخش في كيسٍ من الجِلدِ البشريِّ تكسوه التَّجاعيد، وتتيح لتلك العظام حرِّية الحركة فيه دون أن تعيقها أيُّ شحومٍ أو دهونٍ.
أسمع طقطقة قدميَّ حين أنهض ولا أفلح في ذلك.
لأصل إلى كرسيٍّ مُدولبٍ، كان علي أن أتملَّق تلك الطِّفلة في داخلي، وأرجوها أن تنصاع لرغبتي، وأن أزجر تلك العجوز التي تسكنني، وأتَّهمها بالجُبن، وقِلَّة الحيلة.
حدَّثتني أمي ذات شهيقٍ وزفيرٍ في لحظاتها الأخيرة، عن كيسٍ مصنوعٍ من مآسيها، دسَّت فيه جسدها وتابعت مسيرة معاناتها إلى أن أصبحت بداخله تخشخش كالخلاخيل وهذا سبب وجيه ليدفعها إلى المكوث لفترات طويلة دون حركة كي لا ينزعج مَن كانوا يدَّعون محبتها، والحرص على أن تكون في مأمن حتى من هذا الضَّجيج الذي تُصدره كلَّما تنهَّدت أو تأفَّفت.
قالت لي ودموع ساخنة تبلِّل خدَّيها ووجهي:
– نولد في بالونٍ منفوخٍ يُشبه خدود الصَّبايا المُتوِّهجة عشقًا، وننتهي في بالون فارغ حتى من الهواء، وغيرصالح لإعادة التَّدوير.
أردِّد كلامها في سرِّي وأنا أرمق ذاك الكرسيَّ المُدولَب الذي يحدق بي ببلاهة وكأنه يقول لي:
– ستأتين إليَّ صاغرةً، وسأغدو رفيق دربك، ولن يزاحمني في صحبتكِ إلا ذاك السَّرير البارد الذي سيمدِّدونكِ عليه كلَّ ليلةٍ؛ لتعودي إلي عند الشروق، وتتمسَّكي بذراعيَّ هربًا من ليلكِ الطَّويل.
رحلت أمِّي، وبقي الكرسي شاهدًا على عصرٍ كانت فيه أسيرته الأثيرة، وكنتُ أنا الحارس الوفيَّ.
هذا الكرسيُّ بطل حقيقي، تشهد بإنجازاته غرف المنزل، المطبخ، الشرفة، الحمَّام، وحتى السَّرير الذي ينافسه في دور البطولة.
ينزوي ليلاً، في زاويةٍ مُعتمةٍ من الغرفة، حيث كنت أتعمَّد إقصاءه عن مجال الرؤية، وكأنني أعاقبه مسبقًا على تنبؤاته تلك التي يباغتني بها كلما وقع نظري عليه وهو يلوِّح لي مؤكدًا أنَّ مكاني لا بدَّ أن ينتهي بين ذراعيه.
بقيَ الكرسيُّ شامخًا رغم محاولاتي المتكرِّرة للتخلُّصِ منه على شكل هبةٍ لمن هو بحاجةٍ له، كلُّ جهودي كانت عبثًا، وبقينا معًا عدوَّين صديقيْن، نتبادل تحيَّة الصباح، نتشارك القهوة، أتلو على مسامعه قصصًا قصيرةً لكافكا، وقصائد لوي آراغون لحبيبته إلزا.
تحاشيتُ أن أقحمه في أخبار الحرب والمظاهرات الشعبيَّة المناوئة للنِّظام، والمطالبة بالحريَّة، كنتُ أخشى أن يدبَّ فيه الحماس ويثور على رتابة يومه بصحبتي.
لم يستعذب يومًا قراءاتي، ولم يصفِّق لي وأنا التي أنتشلهُ من عزلته ووحدته.
لم يزل الكرسيُّ شابَّا في مقتبل العمر وأنا في مطلع كل فجر جديد أضيف سنةً على عمري، وأتحسس الكيس الذي يحتويني على مضضٍ، أسمع قرقعة العظام تعزف لحن النِّهاياتِ المحتومة.
الكرسيُّ في مكانه، لم يبرحه منذ آخِر مرَّةٍ أقصيتهُ فيها عمَّا أحدِّث به نفسي، وهو ينظر إليَّ بتشفٍّ وأنا أربط ذلك الكيس حول عنق أيَّامي الماضية، وأكتمُ أنفاسها على سلَّمِها المُتداعي.